حينما تُقطع الأرزاق

 

 

إبراهيم الهادي

وَسط صمت تشهده أروقة منزل شاب مُتزوِّج أصبح لا يملك ريالًا واحدًا يشتري به رغيفَ خبز يسدُّ به رمقَ جوعه وأطفاله، صمتٌ تقطعه أصوات طفلته وهي تَبْحث بين كراكيب المطبخ عن قطعة بسكوت أو تمرة، مع أصوات رنين رسائل هاتفه المحشوَّة بحسابات فواتير الكهرباء والمياه العالية مُنذِرَة بقطع الخدمات عنه إنْ لم يُسدِّد، مع رسائل أخرى تُطالبه بسداد ديونه التي كانت مُقسَّطة على الراتب حينما كان يعمل.. همومٌ اختلط معها لهيب الصيف مع لهيب الألم والحسرة، المشهد هنا لم ينتهٍ بعد فقد بدأت ملامح اليأس والتعب على الشاب الذي قرَّر عددٌ من المعنيين إرفاق اسمه في قائمة قطع الأمان الوظيفي مع آخرين، فوجد نفسه بعيداً عن الأمان، ليشعر بالخوف من مآلات مُبهمة، فما هي قصة هذا الشاب؟!

"زيد" سُرِّح عن عمله حينما عصفت جائحة "كورونا" بالمؤسسة التي يعمل بها، ليجد نفسه من عامل إلى باحث، ولم يلبث كثيرا إلى أن تفاجأ قبل شهرين بوقف الأمان الوظيفي عنه لعدم قبوله بوظيفة "كاشير" في أحد محلات المواد الغذائية. "زيد" هذا لديه شهادات عالية، فقد درس في جمهورية الصين، وحصل على عدة شهادات تُؤهله لوظائف يُمكن أن يستفيد منها الوطن، فهو لم يستسلم، وأدرك أنَّ وطنه يحتاج منه الكثير، فقد قرَّر تطبيق مقولة "اطلب العلم ولو في الصين"، وسافر فعلًا إلى الصين، ودرس هناك، وحصل على شهادة في الاقتصاد والسياسة الدولية، وشهادة أخرى في الصحافة والتواصل الدبلوماسي الدولي من جمهورية الصين، وقد حاول جاهدًا أن يشرح للمعنيين بوزارة العمل عن شهاداته وإمكاناته العالية، وما يُمكن أن يُقدمه من مهارات ودراسات تخدُم وطنه، إلا أنَّ المعنيين بالوزارة لم يستوعبوا الفكرة، فأعطوه خيارا آخر للعمل في محل آخر كعامل تنظيف، أو أنْ يقبل بوظيفة عامل تحميل رخام في مؤسسة مقاول آسيوي آخر.

المُشكلة التي واجهها "زيد" إلى جانب إجباره على عمل تحت مستوى دراساته وإمكاناته، أنَّ هذه المؤسسات التي اقتُرِحت عليه تبعد عن مقر سكنه مسافات طويلة، فهي غير مُجدية بسبب أنَّ المردود ضئيل، ويكاد يكفي لوسائل النقل، فقد أدرك أنه لا يجدي هدر الوقت من الصباح إلى الليل بمردود ضعيف، منطبقاً عليه المثل الذي يقول: "كأنك يا أبو زيد ما غزيت"، فأدرك أنَّ الموضوع هو تعجيز له ليحصل المعنيون بقطع الأرزاق على ذريعة يُرسلون من خلالها اسمه مع آخرين لصندوق الحماية الاجتماعية "أنْ اقطعوا الأرزاق عن هؤلاء"!!

المشكلة الأخرى التي واجهها "زيد" هي أنَّه مُتزوج ويعول أسرة، وكان راتب الأمان الوظيفي يكاد يغطِّي مصاريف الأكل على الأقل، لكنه اليوم أصبح خارج نطاق الأمان الوظيفي، مُتسائلاً في الوقت نفسه: هل حصل المعنيون بقطع الأرزاق على تقييم جيد جدًّا أو ممتاز في منظومة إجادة لقياس الأداء؟!!

يتساءل أيضًا عن مدى إدراك وزارة العمل لمسؤوليتها الوطنية أمام أجيال من الباحثين التي تتلاحق سنويًّا دون أن تُحقق نتائج ملموسة على أرض الواقع، سوى تلك الشعارات والأرقام الفلكية في التوظيف، والتي لم يرها هو على أرض الواقع، وعن مدى إدراك وزارة العمل لكون المجتمع ليس ساذجًا إلى هذه الدرجة التي يُمكن أن تُمرَّر له أرقام وإحصائيات لا تمت لواقعه بصلة.

ومُتسائلا أيضًا عن موازنة سنوية ضخمة تُستقطع من ميزانية الدولة لوزارة العمل، بينما الأخيرة لم تقدم إستراتيجية وطنية حقيقية تنبثق منها وظائف متعددة تُسهم في تنمية الاقتصاد الوطني، بينما تحوِّل سنويًّا ما يصل إلى عشرة مليارات دولار إلى الخارج من خلال المؤسسات التي تنهل من خيرات عُمان!

وأخيرًا.. يتساءل "زيد" عن نسبة استقطاع 1% من رواتب جميع العاملين بالدولة لتدخل ضمن صندوق الحماية الاجتماعية، وقد خُصِّصت للأمان الوظيفي، فيا تُرى: أين تذهب هذه الاستقطاعات إن لم توضع في المكان الذي خُصِّص لها؟!!!!