ثقافة الإنصاف.. أين نحن؟ (2-2)

 

 

محمد بن حمود الصواعي

ثقافة الإنصاف أن يحرص المسلم على العدل مع نفسه أولاً قبل الآخرين لأنَّ الله عز وجل حرم الظلم على نفسه: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" (يونس:44). فمن باب أولى أن يحكم الفرد نفسه وضميره بإنصاف؛ فلا ينشغل بعيوب الآخرين ويهمل نفسه المليئة بالمساوئ حيث يقول الإمام الشافعي:

لِسَانُكَ لاَ تَذْكُرْ بِهِ عَوْرَةَ امْرِئٍ

فَكُلُّكَ عَوْرَاتٌ وَلِلنَّاسِ أَلْسُنُ

وَعَيْنَاكَ إنْ أَبْدَتْ إِلَيْكَ مَعَايِباً

فَدَعْهَا وَقُلْ يَا عَيْنُ لِلنَّاسِ أَعْيُنُ

فينبغي على المسلم أن يُحاكم ويُحاسب نفسه حتى وإن نظر إلى سلوكيات البشر فيتخذ من عيوبهم درسا كي يتجنب ما يؤذي الناس ويضرهم، فهنا ينبغي على المرء أن يطرح التساؤلات الآتية على سبيل المثال:

- هل أنا ملتزم بالورد اليومي من أذكار الصباح والمساء؟

- هل أنا رغم أنني شخص مقتدر حريص على توزيع الصدقات عبر التبرع للجمعيات الخيرية أو توزيع المؤن الغذائية للفقراء والمحتاجين؟

- هل أنا ممن يشكرون نعم الله عزوجل بالأقوال والأفعال أم أنني مستمر في ظلم نفسي عبر ارتكاب المعاصي والذنوب وانتهاك الحرمات؟

- هل أنا مواظب على تلاوة القرآن الكريم والمحافظة على الصلوات؟

- ما المعوقات التي وقفت حجر عثرة أمام الالتزام بتلاوة القرآن والمحافظة على الصلوات:

* اللعب واللهو على حساب طاعة الله عزوجل

* اتباع الشهوات بمختلف أنواعها

* الغفلة عن مجالس الذكر وحلقات التلاوة

* افتقاد الأبناء الاهتمام والمُتابعة

- هل صلاتي عن حب وقوة علاقة مع الله عزوجل أم فقط اتخاذ من العبادة عادات يومية؟

- هل حريص بيني وبين نفسي في وقت الخلوة على طاعة الله وتجنب مختلف المعاصي المُحرمات؟

هكذا يكون ميزان الإنصاف ومحاكمة الإنسان نفسه بالوقوف والحديث بينه وبين نفسه ليكتشف محامد أفعاله، فيحمد الله ويشكره ويكتشف مكامن السوء فيصلح نفسه ويهذبها بالحوار والنقاش والتأديب كالصيام مثلا ليردعها عن فعل الرذائل وترك المعاصي.

ليصدح قول الله عزوجل ليحسم قضية ظلم الإنسان لنفسه وعدم إنصافها بشكل واضح؛ حيث يقول: "مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ".

ثقافة الإنصاف تُحتِّم علينا استخدام المصطلحات اللفظية والأفعال في المكان الصحيح وما أكثر الغوغائيين وممن يحرفون الكلم عن مواضعه فيقلبون كل باطل إلى حق وكل رذيلة إلى فضيلة وكل فساد إلى صلاح وما أروع قول أمير الشعراء أحمد شوقي، حينما وصف حال النَّاس وتبديلهم للقيم والمبادئ ونسفهم للأخلاق والفضائل بمصطلحات براقة ومُسميات منمقة:

ما كان في ماضي الزَّمانِ مُحَرَّمًا

لِلنَّاسِ في هذا الزَّمَانِ مُبَاحُ

صاغوا نُعُوتَ فضائلٍ لِعُيُوبِهِم

فَتَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ والإِصلاَحُ

فالفَتْكُ فَنٌّ وَالخِداعُ سياسَةٌ

وغِنَى اللُّصُوصِ بَرَاعةٌ ونجاحُ

والعُرْيُ ظُرْفٌ والفسادُ تَمَدُّنٌ

والكِذبُ لُطْفٌ وَالرِّيَاءُ صَلاَحُ

هنا.. نلاحظ قلب المصطلحات مستمر وواقع نعيشه ونعينه فمثلاً خذ مجموعة من المواقف التي نعيشها يوميا ويتم تلميعها وتنميقها بمصطلحات وألفاظ مختلفة:

- شارب الخمر المسكر يطلق عليه "روحانيات"

- التاجر المتلاعب في الأسعار والميزان يسمى "براعة وشطارة"

- رشوة الموظف عبر دعوته لوليمة خاصة مقابل تخليص معاملة متأخرة جدا أو مخالفة للقوانين يطلق على هذا النوع من الرشوة أنه "هدية"

- السماح للطلاب بالغش في الامتحانات يطلق عليه اسم (مساعدة):

* هل هكذا أفعال وتسميات هو من العدل والإنصاف التي يدعو إليها الإسلام؟

* هل أصحاب هذه المصطلحات مستعدون أن يدخلوا في حوار عقلاني هادىء خالٍ من الغضب والتشنج؟

* هل هم فعلا رواد الحقيقة وروح العدالة أينما وجدت فعلا؟

أحياناً النظر إلى الأمور بعين الإنصاف يتعذَّر بسبب تشابك الأحداث واختلاف الأهواء والمصالح.. وهنا يجب تحكيم العقل والضمير مع الفطنة هنا يحتاج الإنسان إلى البحث عن الحقيقة والمعرفة والسعي الدؤوب نحو الحقيقة المنشودة؛ ومثال على ذلك:

"ثورات الربيع العربي" وهي من المصطلحات التي أثارت الكثير من النقاشات والدراسات بين مؤيد ومعارض، ولكن هذا المصطلح في مجمله يحمل معالم ثوب الحرية ورداء العيش الكريم وعباءة العدالة الإنسانية ومحاربة الطغيان ونير الاستبداد ولكن باطنها يحمل قنابل موقوتة ولغم مدسوسة من قبل مخابرات (CLA) والموساد ومخططات غربية لاستهداف (س) أو (ص) من بلدان الوطن العربي استغلالا لمطالب الشعوب في التخلص من ظلم الحكام واستبدادهم خدمة لأجندات غربية تتمثل في نهب الثروات وأضعاف الدول تحت أتون الحرب الأهلية واكتواء جحيم التقسيم إلى دويلات وكانتونات متنازعة (سوريا وليبيا أنموذجا).

هذا المثال نموذج استشهدت به لأحداث يومية استمرت طوال 10 سنوات، وهو بالأساس مصطلح استخدمته الدول الأوروبية برئاسة بريطانيا لأول مرة في مؤتمر فيينا سنة 1848م ضد نابليون بونابرت كما ذكر المؤرخ البريطاني هبسباون كما نشر البروفسور الأمريكي مارك لينش من جامعة واشنطن في 6 يناير 2011م مقالا في مجلة فورين بولسي بعنوان "ربيع أوباما".

هذه الإشارات وغيرها هي ومضات سريعة لضرب مثال حول آلية البحث والتأني في الحكم والغوص في أعماق الحقيقة.

ثقافة الإنصاف أن يتوسط الوسيط بين المتخاصمين ويحتكم بالعدل وفق من صاحب الحق ومن هو الأجدر وفق كفاءات ومنجزات دون إدخال العاطفة بسبب قرب في النسب أو صداقة في العمل أو شراكة في المال والجاه أو ترجيح كفته بسبب علو في المنصب وارتفاع في المنزلة. قال تعالى: "وَنَضَعُ الْمَوَازِين الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ" (الأنبياء:47).

هنا.. تأكيد على أهمية العدالة وعظمها عند الله عز وجل وأي جرم يرتكب فيمن يظلم مهما كان حجم الظلم حتى لو كان الظلم هو مقدار حبوب شجرة الخردل وهنا يكشف لنا دقة التعبير القرأني أنه سيحاسب كل ظالم يوم القيامة فاستخدم حبوب شجرة الخردل وهي أخف الأشياء وأصغرها وأقلها وزنا.

ثم عندما نستعرض الآيات البينات من الذكر الحكيم: "وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ" (سورة ص: 21-23).

ثم بعد هذه الآيات السابقة ننظر ونتدبر كيف خاطب الله عزوجل سيدنا داود عليه السلام رغم أنه نبي مرسل من عند الله عزوجل إلا أنه حذره من أتباع الهوى فيضل عن سبيل الله عزوجل وأن يحكم بالحق مذكرا أنه من يظلم حقوق الناس لهم عذاب شديد: "يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ" (ص:26).

نعم.. الله عزوجل يرفض ظلم حقوق العباد وهضمها حتى لو كان نبيًّا مرسلًا؛ فجميع الناس سواسية أمام محكمة العدل الإلهي، هكذا ثقافة الإنصاف يجب أن يفهمها العبد المسلم، ويتعامل بها مع أفراد مجتمعه والمجتمعات الأخرى من الديانات المختلفة.

يعد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مثالا في تطبيق العدل، حيث جاء إليه رجلان من الأنصار يختصمان إليه، ويطلبان منه أن يحكم بينهما، فأخبرهما النبي صلى الله عليه وسلم بأن مَنْ يأخذ حق أخيه، فإنما يأخذ قطعة من النار، فبكي الرجلان وتنازل كل واحد منهما عن حقه لأخيه.

وفي سيرة العدل بين الخصوم لنا عبق الذاكرة وهدى المتقين وسراج المصلحين؛ ومن ذلك ما يروى عن الإمام الوارث بن كعب الخروصي (رحمه الله) في سنة 192هجري أنه عند هطول الأمطار الغزيرة وجريان الشعب والأدوية في وادي كلبوه بنزوى؛ حيث إن هناك سجنًا يسجن فيه الإمام بعض المجرمين والظالمين هنا خشي الإمام أن يحاسبه الله عزوجل يوم القيامة عن مسؤوليته حول هلاك هذه الأرواح فأنبرى بكل صدق وأمانة وعدل وإنصاف وقرر أن يرمي نفسه في الوادي لإنقاذ هذه الأرواح فاستشهد غريقا في سبيل الله لإنقاذ تلك الأرواح.

وأخيرا.. فقد برهنت الحضارة الإسلامية تكرسيها قيم العدالة والمساواة بين المسلمين وغير المسلمين جميعا؛ فالتشريعات الربانية جاءت واضحة وضوح الشمس فقد حفظت حق اليهود والنصارى من حيث الأمان والاستقرار والمعاملة في البيع والشراء والبناء فهم سواسية في المعاملة مع المسلمين دون تمييز أو انتقاص كذلك تمثلت روح الإنصاف في منحهم حرية ممارسة الشعائر الدينية وحفظ كنائسهم من الهدم والدمار ومن أجمل قصص العدل والأنصاف ما حدث في عهد السلطان العثماني مراد الأول عندما لجأ صهر ملك صربيا فوك برانكوفيتش إلى السلطان مراد وجيش الدولة العثمانية حيث كشف لهم خطة ملك صربيا لازار وتقسيمات جيشه في معركة كوسوفو سنة 1389م فاندهش السلطان مراد ومستشاريه أنك نصراني ونحن مسلمون كيف تضع يدك بيدنا ضد جماعتك ومن هم في ديانتك النصرانية فأجاب فوك برانكوفيتش وهم أعداء الإسلام وألد الخصوم قائلا: "لأنكم قوم عادلون ولأننا أمة مقهورة ومظلومة ولقد ظلمنا كثيرا في عهد لازار ونطمع أن نعيش بين ظهرانيكم في عدلكم الذي هو أساس دينكم وعقيدتكم فنحن نعلم جيدا أن الإسلام هو الدين الأكثر نورا في أكثر فترات العالم".

تعليق عبر الفيس بوك