ثقافة الإنصاف.. أين نحن؟ (1-2)

 

 

محمد بن حمود الصواعي

قد يعتقد البعض أنَّ النظرة الوسطية للحياة في جميع المجالات تعكس شخصية مثالية خالية من العيوب والشوائب، كما أنه إنسان منفتح ذو عقلية ناضجة تحترم الجميع حينها تكتشف ذات الشخص موغل في أمور مفصلية تصل إلى تجاوز الخطوط الحمراء فتراه مثلاً يدعو لأمر محمود في المساواة بين الرجل والمرأة، ظاهره محمود وحثَّ عليه الإسلام كلٌّ محفوظة حقوقه وواجباته، أما باطنه فتراه مثلاً يبيح عمل الرجل والمرأة في مكتب واحد مع إبراز المرأة لمحاسنها.

فتقول: "يا فلان، ما هذا الذي نراه؟"، فيقول: "المساواة بين الرجل والمرأة في ميادين الحياة"، فتقول له: "يا رجل، الإسلام كرم المرأة كما كرم الرجل. نعم مع المساواة، ولكن ليس تعدي الخطوط الحمراء"، فيقول لك: "وما هي الخطوط الحمراء يا شيخ، أو يا صاحب الفضيلة؟".

فتقول دعنا نتأمل ونتدبر قوله تعالى: "وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" سورة النور(31)

ودعنا نمر بين أطياف كتاب الله الحكيم ونتأمل قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا" سورة الأحزاب (59)

هنا.. يتزمَّت الشخص برأيه ويغتر بمعرفته ويتعصب لثقافته، فيقول: تلك حالات خاصة واستثنائية، وأخذ يتمتم بكلمات ملغومة هذا تشدد وضد حرية المرأة وفهمكم للإسلام سطحي وتفسرون القرآن وفق ما يتوافق مع كهنتكم أي يقصد (مشايخ العلم).

ثم تقول لهذا الشخص: هدئ من روعك.. دعنا نتحاور ونتناقش بهدوء وأدب، أين الخصوصية في الآية الأولى عندما تذكر لفظة المؤمنات فهي تعميم لجميع المؤمنات في العالم بالأوامر الآتية:

- غض الصر، صون العرض، عدم إظهار المرأة زينتها أمام الناس ماعدا وجهها وكفيها وتغطية بعض الأماكن كالعنق والصدر عبر الحجاب واللباس الساتر

- هل هذا التوجيه الرباني خاص بنساء دون نساء؟

- هل هذا التوجيه الرباني قيد في زمن معين وعصر محدد حتى يصنفه البعض أنه تخلف للمرأة وخارج عن نطاق الذوق والشهوة والموضة؟

- هل هذا التوجيه الرباني قيد بمكان معين في المكتب مثلا أم في التسوق ومكان العمل فقط أم جعل إطلاقا بمجرد ان تخرج المرأة من منزلها؟

ومن ثم، عندما ننتقل إلى الآية الثانية من سورة الأحزاب فهي نزلت على سيدنا محمد يأمر زوجاته أن يلبسن الجلباب أي العباءة الساترة عند الخروج، خوفا من أن يلحقهم الأذى من ضعاف النفوس، وهنا إن نزلت على سيدنا محمد في تنبيه زوجاته فهي نصيحة عامة لكل فتاة تخرج من منزلها الالتزام بلبس الجلباب الساتر، ل اسيما أنها تعمل في بيئة محاطة بالشباب خوفا عليها من الفتنة.

الإنصاف هو المرادف الفعلي للعدل؛ حيث إنك تمنح حقوق الآخرين كما تحب أن يمنح الآخرين حقك وهي تشتمل على الصفات والخصال الحميدة كالصدق والأمانة والوفاء والاعتراف بالحقيقة والتواضع معها وتجنب الجدال على الباطل وتقبل النصيحة والابتعاد عن الفجور في الخصومة وغيرها.

أبدى القرآن الكريم للعدل والمساواة أهمية بالغة؛ حيث شرعها الله عزوجل على جميع الأمم السابقة بما فيه الإسلام وعليه فقد كان حازما في تحقيق العدالة الإنسانية دون تمييز بين المسلمين سواء من جهة عرقية أو قبلية أو قومية فقد جعلهم سواسية وأن أكرمهم عند الله أتقاهم ليس من كان عربيا أو قرشيا أو سلطانا أو عالما بل المقياس الحقيقي هو التقوى وهذا ما نص عليه الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم: "لا فَضلَ لعَرَبيٍّ على عَجَميٍّ، ولا لعَجَميٍّ على عَرَبيٍّ، ولا لأبيضَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أبيضَ إلَّا بالتَّقْوى، الناسُ من آدَمَ، وآدَمُ من تُرابٍ".

ومن هنا، ورد ذكر العدل ومشتقاتها في القرآن الكريم 28 مرة في حين ورد ذكر لفظة المقسطين ومشتقاتها وهو معنى من معاني العدل في القرآن الكريم 15 مرة من جهة أخرى ذكر الظلم نقيض العدل 289 مرة تأكيدا على الوعيد والعقاب الذي يناله الظالم، في حين ذكر البغي عشر مرات والجور مرة واحدة فقط.

ثقافة الإنصاف تُولد المحبة والإلفة والاحترام بين الأفراد والمجتمعات والأسر، فحينما الفرد يعترف بتقصيره في مساعدة والده مثلا هنا يتفهم الأب خطأ ابنه وأنه لن يعيد تكراره مرة أخرى، أو أنه إذا الموظف قصر في خدمة فرد من أفراد الوطن هنا يدرك المسؤول صراحة الموظف فيعدل في الحكم بين نصح وإرشاد بأسلوب مهذب وبين محاولة تنبيه الموظف عدم تكرار هذا التقصير في حق الوطن والمواطن.

ومن ذلك، ما ورد عن أروع قصص العدل بين الحاكم ورعيته قصة الإمام محمد بن عبدالله الخليلي -رحمه الله- فقد كان يملك ناقة فعرضها للبيع فأراد أحد أفراد البادية أن يشتريها منه فطلب البدوي من الإمام الخليلي أن يحجزها له؛ حيث إنه سيغادر الدار وسيرجع بعد فترة، فنسي الإمام الخليلي بسبب أشغال الدولة ومطالب الرعية، فقد باع الإبل لشخص أرادها، فجاء البدوي بعد فترة من الزمن أمام مجلس الإمام الخليلي يطلب ناقته، وسط حضور القضاة والعلماء وجمع غفير من النَّاس، فعندما علم أن الإمام الخليلي قد باع ناقته، قال: إني أشتكي منك إليك، فقال له الإمام يحق لك ذلك ولكن أعرض شكواك على القاضي لأنَّ الشكوى ضدي فلا يحق أن أحكم على نفسي، فهنالك قاضٍ، ثم طلب الإمام من القاضي أن يحكم بينه وبين البدوي في منظر يُظهر جلال التواضع وعظمة الإنصاف ورونق العدل بين الحاكم والمواطن، جلس الإمام الخليلي بجوار خصمه منتظرا صدور حكم القاضي في مشهد يكشِف لنا جمال الحضارة الإسلامية ورقيها في تحقيق أعلى منارات المساواة، كاشفاً مدى تطبيق مقاصد العدل الذي يدعو إليها الإسلام؛ حيث جعلوا سلطة القضاء لها الحق المطلق في إصدار الأحكام، ولو كانت ضد الإمام دون تدخل السلطة التنفيذية. هنا أصيب البدوي بعلامات الدهشة والانبهار عندما رأى موقف الإمام وهو يجلس بجواره منتظرا إصدار الحكم فسر سرورا شديدا عندما رأى عدل الإمام في تطبيق الأحكام، وأنه لا حجاب بين الإمام وعامة الشعب، فشعر بالحياء وتنازل عن حقه وسامح الإمام الخليلي.

ثقافة الإنصاف أن يلتزم المسلم بروح العاقل المتأدب الباحث عن الحقيقة أن يتحرى الصدق والنزاهة من الأخبار والأحداث المختلفة وأن يقول الحق وأن يكتب ويُعبر بروح الحقيقة المتجردة من داء التعصب المقيت ومرض التزمت وفيروس الإجحاف تجاه الآخرين وعضال نكران المعرفة وازدراء الحقائق فجورا وبغضا وطغيانا وكل ذلك يكون بالحجج الساطعة والأدلة القاطعة والبراهين الفاضحة.

أين نحن من قول الله عزوجل: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" (سورة المائدة: 8).. الآية القرأنية صريحة بأن العدل مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية وهو منهج رباني حيث أمر الله المسلمين أن يكون العدل ميزان بين الحق والباطل كما نهى عن ظلم صاحب الحق وأن كان أشد الأعداء بل الإسلام رعى حرمات الديانات الأخرى التي تعيش تحت حكم المسلمين وقد عبر عن ذلك بصورة واضحة الفقيه ابن تيمية: "إن الله يبقى الأمم العادلة حتى لو كانت مشركة، ويفنى الأمم الظالمة حتى لو كانت مسلمة"

ولنا في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قدوة حينما عاش تحت كنف الدولة الإسلامية يهود بني فريضة وبني قينقاع وبني النظير؛ حيث منحت لهم الحرية الكاملة في ممارسة شعائرهم الدينية ولم تهدم كنائسهم فنالوا رغد العيش من أمن وسلام واستقرار حيث حرم الله عزوجل الظلم على نفسه.

ولا ننسى الملحمة التاريخية للعهدة العمرية، حينما فتح بيت المقدس من أيدي النصارى كيف عاملهم واحترم كنائسهم ولم يهدمها، بل استثنى الرهبان وكبار السن والأطفال من دفع الجزية، بل وسن قانونا بمنح مبلغ ما بين 20 إلى 50 درهما لكل طفل حديث الولادة، فشمل القانون المسلمين والنصارى على حد سواء؛ فما أجمل الإنصاف، وما أروع العدالة وهي تتجلى في أسمى رونق وأبهى حلة.

تعليق عبر الفيس بوك