كشف الستار عن حالة ظَفار للشيخ عيسى الطائي قاضي قضاة مسقط (11)

 

 

ناصر أبوعون

- قال الشَّيخُ القاضِي الأجَلّ عِيَسى بِنْ صَالِحٍ بِنْ عَامِرٍ الطَّائِيُّ: [(ولمَّا اِنْقَضَتْ السَّاعَةُ الْعَاشِرَةُ نَزَلَ السُّلْطَانُ مِنَ الْبَارِجَةِ فِيْ (مَاشَوَّةٍ إِنْكِلِيْزِيَّةٍ)، وَلَمّا وَصَلَ السَّاحِلَ تَلَقَّتْهُ جَمَاهِيْرُ النَّاسِ، وَأَطْلَقَتِ الْبَارِجَةُ (وَاحِدَةً وَعِشْرِيْنَ ضَرْبَةَ مِدْفَعِ) (تَسْلِيْمِ الْوَدَاعِ). وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي نَزَلَ قُنْصُلُ دَوْلَةِ بِرِيْطَانْيَا مِسْتَر (وينكت) فَجَاسَ خِلَالَ الْبِلَادِ، والشَّمْسُ فِي كَبِدِ السَّمَاءِ، وَلْمْ يَمْنَعُهُ حَرُّ الشَّمْسِ، وَلَا الغُبَارُ الَّذِي (تَسَفُّهُ الرِّيَاحُ) عَنِ الوُقُوفِ وَالاطِّلاعِ عَلَى مَآثِرِ هِذِهِ المَدَيْنَةِ الْقَدِيْمَةِ العَهْدِ فَلِسَانُ حَالِهِ يَنْشُدُ: [وأَسْرِي وَلَوْ أَنَّ الظَّلَامَ جَحَافِلُ// وَأَغْدُو وَلَوْ أَنَّ النَّهَارَ مَنَاصِلُ].. وَلَقَدْ كُنَّا -نَحْنُ مَعَاشِرَ المُسْلِمِيْنَ- أَيَّامَ يَقْظَتِنَا وَاسْتِقْبَالِ أَمْرِنَا وَالدَّهْرُ دُولٌ- أَشَدُّ صَبْرًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْأُوربيين وَأَحْمَلُ لِلْخُطُوبِ، وَأَكْثَرُ تَجَلُّدًا، وَأَعْظَمُ رَغْبَةً فِي الاطِّلَاعِ وَالْوقُوفِ عَلَى مَآثِرِ الْأَوَائِلِ وَالْكَشْفِ عَنْ حَالِهِمْ؛ وَلَكِنِ الْيَوْمَ قَدِ اِسْتَوْلَى الْكَسَلُ عَلَيْنَا؛ فَصِرْنَا فِي سُبَاتٍ بَعْدَ الْيَقَظَةِ! وَتِلْكَ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ. {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس})].

*****

"مَاشَوَّة صُوريّة وجِهَازِيّ زنجباريّ"

- يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(نَزَلَ السُّلْطَانُ مِنَ الْبَارِجَةِ فِيْ (مَاشَوَّةٍ إِنْكِلِيْزِيَّةٍ)]... لقد اُتُفق ما بين الأعم الأغلب ممن يرتادون البحر بأن "(المَاشَوَّة) قارب له ما بين 12 أو 18 مجدافاً؛ ويُقال بأنّ أصل الكلمة (هنديٌّ)، وينطقونها هكذا (Mashuwwa) (1)، ولمّا تعرّبت صار تُجمَعُ على (مَوَاشٍ)، "وتُكتب في اللغة السواحيلية (Kiswahili) هكذا: (Mashua). و(المَاشَوَّة)  قارب يُستخدم في نقل البضائع فضلا عن مَهمَّات الصيد، وكان في مطلع القرن التاسع عشر شديد الشيوع على السَّاحلين العربيّ والإيرانيّ، وله مُؤخرة مُربَّعة ودُعَامة أُفقية واسعة وسطحٌ يمتدُّ من الأمام إلى الخلف وذو صَارٍ واحدٍ، أمّا الطراز الأكبر؛ فيبلغ طوله 40 قدمًا، ويتمُّ توجيهه بـ(الدَّفَّة)، بينما يُوَجَّهُ الطِّرازُ الأصغرُ بالذِّراع.

أمّا (مَاشَوَّة) السِّباق (الصُّورِيّ – نسبةً إلى ولاية صُور العُمانيّة بمحافظة الشرقية - المستخدم اليوم فمُصَمَّم وِفْقَ خطوط مماثلة لخطوط القارب (الجِهَازِيّ الزِّنْجباريّ) ذِي المقدمة المُقوَّسة قليلا، وهو الأقدم عهدًا والمعروف عند بُناة القوارب المحليين، إنما مع بعض التعديلات ليستوعب 24 مجدافًا"(2). أمّا قول الشيخ الطائيّ [(مَاشَوَّةٍ إِنْكِلِيْزِيَّةٍ)]؛ فالياء هنا (ياء التَّمَلُّك) مضافةً إلى الجنس و-هُمُ الإنجليز- وليست (ياء النِّسبةِ) إلى الإنجليز إشارةً منه إلى أن مِلكيّة وحِيازة الـ(مَاشَوَّة) للإنجليز، وليسوا هم من صنعوها ابتداءً ومَنْشأً، أيْ؛ تمْلِكُها البحريّةُ البريطانيّة، لكن مُصَاغةٌ بأيدي نجّارين عُمانيّين؛ وغالبًا تمَّ تصنيعها بـ(ولاية صور). وتاريخيًا ينتمي قارب (المَاشَوَّة) كأثرٍ ماديّ إلى حضارات الشعوب التي تستوطن ضِفَّتي الخليج والمحيط الهنديّ.

 

"الآثار الاقتصاديّة لاتفاقية السِّيب"

- يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(تَلَقَّتْهُ جَمَاهِيْرُ النَّاسِ)]... وفي هذه العبارة المُكثَّفة يصف الشيخ الطائيّ فرحة الجماهير والسواد الأعظم من مواطني أهل (ظفار وسائر ولايات سلطنة مسقط وعُمان) بمَقْدِم السلطان السيد تيمور بن فيصل بن تركي بن سعيد بن سلطان بن أحمد بن سعيد البوسعيدي (1886 - 1965)؛ مظهرين له جزيل الثناء، ومبالغين في أُبَّهة الاحتفاء، ومعترفين بعظيم الفضل والتقدير، لما أصابوه من رغد العيش الهنيء بعدما عمَّ الاستقرار السياسيّ وما تبعه من انتعاش اقتصاديّ في سائر أنحاء القطر العُمانيّ؛ وما نجم عنه من اتساع معايشهم، وتَحَسُن أحوالهم على أثر إبرام (اتفاقية السيب عام 1920م)، والتي كان من نتائجها المباشرة، أَنْ "منحت زعماء القبائل الذين قاموا بتوقيعها حُكما ذاتيا، وأقرّت بعدم التدخل في شؤون شيوخ القبائل العُمانية، وساهمت في اتساع نطاق التجارة بعد نهاية الصراع الذي كان قائما بين السلطنة والإمامة، ومثّلتْ بدايةً لعهد جديد مستقرّ، وأعادت بناء علاقات طبيعية بين الداخل والساحل، وصارت عُمان في عهده هادئة مستقرة؛ فضلا عن السماح بحُرية التجارة والسَّفر من وإلى عُمان وسلامة المسافرين، وضمان أمن وحرية العُمانيين في دخول المُدن الساحلية، وإلغاء الحظر المفروض على حُرية دخول سكان الداخل إلى مسقط ومطرح، وتخفيض الضرائب على السلع الواردة من الداخل إلى المدن الساحلية"(3).

 

"21 طلقة في توديع السلطان"

- يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(وَأَطْلَقَتِ الْبَارِجَةُ وَاحِدَةً وَعِشْرِيْنَ ضَرْبَةَ مِدْفَعِ (تَسْلِيْمِ الْوَدَاعِ)]... فلمّا وصل (السلطان السيد تيمور بن فيصل) على متن البارجة الحربية البريطانية إلى (ظَفار) وَاجَهَ الجماهير، واستقبله الأعيان وشيوخ القبائل، ثُمّ استدارت البارجة متوجّهةً لشؤونها، وقُبيل تحركها نشرت الأعلام واصطفّ رُبّانها متقدمًا طاقم البَحَّارة وأدّوا تحيّة الوداع للسلطان تيمور بن فيصل، وأطلقت البارجة 21 طلقة مِدْفَع، ثُمّ مضت إلى مَهَمَّات أخرى. و"(الوداع): بالفتح، اسم من (التوديع) كالسَّلام اسم من التسليم، ويُقال: (ودَّعته توديعًا) إذا شيَّعته عند سفره، وقال الراغب الأصفهانيّ: (التَّوديع) أصله من الدِّعَة، وهي الراحة وخفض العيش، وهو أن يدعو للمسافر بأن يتحمَّل الله عنه كآبة السفر، وأن يبلغه الدِّعة، كما أن التسليم دعاءٌ له بالسلامة، وصار ذلك تقليدًا مُتعارفًا عليه في تشييع المُسافر وتركه"(4). وقال الفيروزآبادي: "(ودَّعَه) و(وَدَعَهُ) بمعنى (الوداع)، وهو تخليف المسافر الناس خافضين، وهم يودّعونه إذا سافر تفاؤلا بالدِّعة التي يصير إليها إذا قَفَلَ، أي يتركونه وسفره"(5).

 

 (وينجيت).. عرّاب اتفاقية السِّيب

- يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي نَزَلَ قُنْصُلُ دَوْلَةِ بِرِيْطَانْيَا مِسْتَر (وينكت) فَجَاسَ خِلَالَ الْبِلَادِ، والشَّمْسُ فِي كَبِدِ السَّمَاءِ)]... فـ[(مِسْتَر (وينكت)] هو السير رونالد إيفلين ليزلي وينجيت (1889م– 1978م) Sir Ronald Evelyn Leslie Wingate,  الشهير بـ(البارون الثاني-2nd Baronet)، شغل وظيفة الوكيل السياسي والمندوب السامي البريطانيّ في (البنجاب)، وبعد توقّف الحرب العالمية الأولى تولّى منصب (القنصل البريطاني في مسقط)، ولعب دورا محوريا في مفاوضات اتفاقية السيب1920م بين السلطنة والإمامة في عهد السلطان تيمور بن فيصل، ثم انتقل ممثلا للحكومة البريطانية لفترة وجيزة في (ولاية كشمير) قبل أن يعود إلى عُمان مرة أخرى في شهر أكتوبر 1919م. وكان من خِططَهِ في إضعاف نفوذ الإمامة في الداخل؛ أنْ اتخذ "إجراءات سياسيّة كان من أهمها: فرض حصار اقتصادي ورفع نسبة الضرائب الجمركية على منتجات داخلية عُمان وصلت إلى 50%، مما أثار استياء وسُخْط السكان من الإمام سالم بن راشد الخروصي، فلمّا تُوفي الشيخ حمير بن ناصر النبهانيّ عام 1920م فَتَّ ذلك في عضد الإمامة وتضعضعت رباطة جأشها. ومع انتخاب الإمام محمد بن عبدالله الخليليّ طلبت بريطانيا من قنصلها (وينجيت) استغلال الظرف السياسيّ وحالة الكساد الاقتصاديّ لتجديد الوَساطة بين السلطان والإمامة؛ فأجرى اجتماعا مطولا على مدار يومين مُتتاليين حضره الشيخ سعيد بن ناصر الكندي ممثلا عن الإمامة وبصحبة الشيخ عيسى الحارثي انتهت بتوقيع اتفاقية السيب"(6).

 

"الجوس على أربعة مَعَانٍ"

أمّا قوله: [(فَجَاسَ خِلَالَ الْبِلَادِ)].. تعبير بلاغي فيه (تنَاصُّ قرآني) مع الآية الخامسة من سورة الإسراء {فَجَاسُواْ خِلَٰالَ ٱلدِّيَارِۚ}، برواية حفص عن عاصم، والفعل (جاس) متعدٍّ جاء في هذا الموضع على أربعة مَعانٍ، أمّا المعنى الأول؛ (جَاسَ الحيَّ)، أيْ: تخطّاه، ومنه قول جرير:[يَجُوسُ عَمَارَةً، وَيَكُفُّ أُخْرَى لَنَا// حَتَّي، يُجَاوِزَهَا دَلِيْلُ](7)، وأمّا الثاني؛ (جاس الديار) بمعنى: نزلها وحلَّ بها. وشاهده الشعري: [فَجُسْنَا دِيَارَهُمْ عَنْوَةً//وَأُبْنَا بِسَادَاتِهِم مُوْثَقِيْنَا](8) ، وأمّا المعنى الثالث؛ (جاس الناس): تخللهم ليتعرّف على أخبارهم. وشاهده في قول عمر بن الخطاب: [أَلَمْ أَرَ جَارِيْةَ أَخِيْكَ تَجُوسُ النَّاسَ، وَقَدْ تَهَيَّأَتْ بِهَيْئَةِ الحَرَائِرِ؟](9)، وأمَّا المعنى الرابع؛ (جاس الأرض ونحوها): وطئها وداسها، وشاهده في قول سعد بن زيد مناة التميميّ:[يَظَلُّ يَوْمَ وِرْدِهَا مُزَعْفَرَا//وَهِي خَنَاطِيْلُ تَجُوسُ الخَضِرَا](10).

 

"لا نَفْلَ والشمس في كبد السماء"

وقوله: [(والشَّمْسُ فِي كَبِدِ السَّمَاءِ)].. و(كَبِدُ الشيء): وسطه، ومُعظمه، وجمع (الكَبِد) على (أَكْبَاد، كُبُود، أَكْبُد كِبَاد). وشاهده الشعريّ في قول قُسّ بن ساعدة الإياديّ، يصف جريان الشمس:[تَجْرِي عَلَى كَبِدِ السَّمَاءِ، كَمَا// يَجْرِي حِمَامُ الْمَوْتِ فِي النَّفْسِ](11)، ووقتُ انتصاب الشمس في كبد السماء أحد الأوقات الثلاثة التي نهى الرسول (ص) أمته عن صلاة (النفل) فيها، امتثالا لما رواه مسلم وغيره من حديث عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ{ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كانَ رَسولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ- يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، أَوْ أَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حتَّى تَمِيلَ الشَّمْسُ، وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حتَّى تَغْرُبَ} وهذه الأوْقاتُ "هي:«حِينَ تَطلُعُ الشَّمسُ بازِغةً»؛ وذلك عندَ أوَّلِ طُلوعِها ظاهِرةً للعِيانِ، وهو في التَّقديرِ المعاصِرِ: حوالي رُبُعِ ساعةٍ بعدَ طُلوعِ الشَّمسِ، ونَهى عنه؛ لأنَّه وقتٌ كان يُصلِّي فيه عُبَّادُ الشَّمسِ ويَسجُدونَ لها، وهو وقْتٌ يُقارِنُ فيه الشَّيطانُ طُلوعَ الشَّمسِ، والوقتُ الثَّاني: «حينَ يَقومُ قائمُ الظَّهيرةِ»؛ وذلكَ في نصْفِ النَّهارِ، وتَكونُ الشَّمسُ في وسَطِ السَّماءِ، وذلكَ حينَ لا يَبقَى للقائمِ في الظَّهيرةِ ظلٌّ في المَشرِقِ ولا في المَغرِبِ، وهوَ وقتُ اشتِدادِ الحرِّ، ونَهى عنه؛ لأنَّ جَهنَّمَ تُسعَّرُ فيهِ، ويظَلُّ وقتُ النَّهيِ حتَّى تَميلَ الشَّمسُ إلى جِهةِ المَغرِبِ قَليلًا، ويَحصُلَ الزَّوالُ الَّذي به يَدخُلُ وَقتُ صَلاةِ الظُّهرِ، والوَقتُ الثَّالثُ:«حينَ تَضيَّفُ الشَّمسُ للغُروبِ»، أي: تَميلُ نحوَ الغُروبِ حتَّى تَغرُبَ ويَكتَمِلَ الغُروبُ ويَختَفيَ قُرصُ الشَّمسِ، وهو وقتٌ يُقارِنُ فيه الشَّيطانُ غُروبَ الشَّمسِ. وهذا النَّهيُ لا يَدخُلُ فيه الفَرائِضُ المُؤَدَّاةُ، ولا الفَوائِتُ المَقضيَّةُ، بل يَخُصُّ صَلاةَ النَّافِلةِ"(12).

 

"ريح الغبرة وموسم البوارح"

- يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ:[(وَلْمْ يَمْنَعُهُ حَرُّ الشَّمْسِ، وَلَا الغُبَارُ الَّذِي [(تَسَفُّهُ الرِّيَاحُ)]... ويقولون: (تَسَفَّهَتِ الرِّيَاحُ)، أيْ: اِضْطَرَبَتْ، وحملت الغبار، و(رِيْحٌ سَفْوَاءُ) خَفِيْفَةٌ وسريعة هوجاء، و(سَفت الريحُ التّراب تَسفيه سَفْياً.والسَّفا): ما تَطَايَرُ به الرِّيحُ من التُّراب، و(السَّفا): شوك البُهْمَى، وذلك 'أنه' إذا يبس خَفّ وتطايرت به الرّيح. ومنه قول رؤبة: [واسْتَنَّ أعراف السَّفَا على القِيَقْ](13) ، وفي زمن الرحلة التي قام بها السلطان تيمور، وخلال هذه الشهور من السنة تنشط على (ظفار) عصفات من الريح، و"هذه الريْحُ تنقسم إلى قسمين: ريْحٌ دائمة تهبُّ على السواحل التِّهامية واليمن والقرن الإفريقي، وتعمل على إثارة الغبار والأتربة العالقة طوال موسم الصيف. والعامة يسمونها موسم الغبرة أو "الغبيرة"، وريْح ناهضة مع الشمس تبدأ مع شروقها وتشتد حمأتها في حال الظهيرة، وإذا غربت الشمس يترسب الغبار على الأشياء والعامة يسمونها موسم "البوارح" وهي الريْح التي تعمل على إزاحة الرمال الصحراوية، والريْح الدائمة والناهضة والمثيرة للغبار والأتربة تستمر طوال موسم الصيف، وتكون حارة وتسمى "السَّموم" خلال موسمي "زدحة وجمرة القيظ" ومدتهما 52 يوماً"(14).

 

"مَآثِر الطائيّ خروجًا من الخلاف"

- يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(الوُقُوفِ وَالاطِّلاعِ عَلَى مَآثِرِ)]... في هذه العبارة المكثّفة الدلالة، تخيّر الشيخ القاضي عيسى الطائيّ لفظة (المَآثر)، بديلا عن لفظة (الأثار). و(المَآثر) في المعجم الوسيط على وزن (مَفَاعِل)، وهي جمع تكسير للاسم (مِئْثَرة) التي على وزن على وزن (مِفْعَلَة)، وهي أَداة تترك في الشَّيْء أَثَراً خاصًّا يتميز به. ولقد دلّ هذا الاختيار من  الطائيّ على رجاحة وعيه وتكئة للخُروج من ربقة الخطأ الشائع الذي وقع فيه الكثيرون بأن خلطوا بين مصطلحي (التُّراث) و(الآثار)؛ حتى صار ينظرُ الناسُ إليهما – حتّى الساعة - على أنهما بمعنى واحد وذلك على وجه الخصوص في مُسميات الدوائر الحكوميّة وسائر المُكاتبات الرسميّة خاصة في بلدان الخليج، فضلا عمّا وقر في أذهان العامة! وربّما يرجع هذا الخلط لانتفاء وجود كيانات مؤسسية وأكاديميات متخصصة تُعْنَى بكل علمٍ على حِدَة؛ فالتراث هو:"كل ما هو موروث من ثقافات تشتمل على قيم وتقاليد ورؤى، وهذا لا يعني انتماءه للماضي فقط؛ أي إنه حَدَثٌ ماضٍ له امتداد ثقافيٌّ يُعايش العصر، وينفذ في حياة المعاصرين فيكون له أثرٌ على الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والروحية والتعامل مع البيئة المحيطة عمرانيا"(15)، وشاهده من قول عامر بن وهب المُحاربيّ: [فَأَبْقَتْ لَنَا آبَاؤُنَا مِنْ تُرَاثِهِمْ//دَعَائِمَ مَجَدٍ كَانَ فِي النَّاسِ مَعْلَمَ](16)، أمّا الآثار؛ فهي: "المخلّفات الأثرية لإنسان عصور ما قبل التاريخ والعصر القديم وتتمثل في البقايا الماديّة الأثريّة كالأدوات الحجرية والعظمية والرسومات والنقوش الجداريّة والتي يُعنى علم الآثار بدراستها بهدف اكتشاف تاريخ الماضي الإنسانيّ، وصياغة تسلسل أحداثه التي شهدتها حِقَبُ ما قبل التاريخ والحقب التاريخية المبكرة"(17)، والأثر في اللغة: ما تبقَّى من رُسومِ الدِّيَار ونحوِها، وأثار الشيء بقيته الدالة عليه وشاهدُه من قول مهلهل بن ربيعة التّغلبيّ:[وَلَسْتُ بِخَالِعٍ دِرْعِي وَسَيْفِي//إِلَى أَنْ يَخْلَعَ الَليلَ النَّهَارُ)(وَإِلَّا أَنْ تَبِيْدَ سَرَاةُ بَكْرٍ// فَلَا يَبْقَى لَهَا أَبَدًا أَثَارُ](18).

 

"660 قنطارًا من ذهب ظَفار"

- يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(هِذِهِ المَدَيْنَةِ الْقَدِيْمَةِ العَهْدِ)]... وهنا يقصد شيخنا الطائيّ بقوله (القديمة) مدينة (زفر – أَوْفَير - ظَفار) الضاربة بجذورها في عصور ما قبل التاريخ حيثُ كانت (ظَفار العُمانيّة) في الأعصر الأولى وعاصمتها (مِرباط) دُرة الزّمان، وفي مرافئها تلتقي قوافل حضارات العالم القديم. وفي (ص:57- ج5) من (صُبْح الأعشى) نقلا عن كتاب (العِبَر وديوان المبتدأ والخبر) لابن خلدون: فإنَّ (عُمانًا) وحاضرتها (ظَفَار) كانت في القديم لـ(عَادٍ) مع الشحر وحضرموت وما والاهما. وفي الأزمان السحيقة كانت تُسمى (أَوْفَير)، وقد "جاء في سِفْر الملوك الثالث من التوراة أنّ سليمان – عليه السلام – سخَّر الجنَّ فجلبوا له من (ظَفار عُمان) ستَّ مِئةٍ وستًا وستين (660 قنطارا من الذهب) في سنة واحدة، وفي هذا السِّفْر أيضا: ذُكِرَ الاتفاقُ بين مَلِكِ (أُورْسَالم – أورشليم - القدس) سليمان -عليه السلام – ومَلِك (صور الفينيقية)؛ وهو (حيروم أو حيرام) الذي اكتشف رأس (مرباط) على إنشاء السفن لتمخر البحر المحيط وغيره، وترسو بـ(مراسي الشحر). و(ظَفَار) كانت تُسمّى في ذلك العهد القديم بـ(زَفَر)؛ لأنها كانت مقرَّ ثروة عظيمة، وواسطة اتصال بين الشرق والغرب، ويحدّها شمالا: صحراء الأحقاف، وجنوبًا: بحر عُمان، وشرقًا: سلطنة مسقط، وغربًا: ولاية اليمن. وهذا أوسع الحدود عند ياقوت الحمويّ"، وفي الطريق بين عُمان وعدن، تقع (ريسوت الظَّفارية)، وهي شبه قلعة يحيط بها البحر من الجهات الثلاث، وأعمال ظفار أولها: رخيوت، ثم ريسوت عند حصن الغراب، وكلاهما مراسٍ، ثم ظفار، وقد عوّد الله أهل (ظَفار العُمانيّة) هطول الأمطار، من نجم (شهر شوال) إلى تمام ثلاثة أشهر بلياليها، ولا يختلف عنهم هذا الموسم أبدًا، وقد تأتيها الأمطار في غير ذلك الوقت، وخيراتها دارَّة، وبركاتها كثيرة، ويتحدث الناس أنَّ بها (عود الإكسير)"(19).

 

"القنصل وينجيت وأبي العلاء المعريّ"

- يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: فَلِسَانُ حَالِهِ يَنْشُدُ:[ وأَسْرِي وَلَوْ أَنَّ الظَّلَامَ جَحَافِلُ// وَأَغْدُو وَلَوْ أَنَّ النَّهَارَ مَنَاصِلُ]... وهذا البيت من بحر الطويل في قصيدة (ألا في سبيلِ المَجْدِ ما أنا فاعل)، ومن خلاله يستدعي الشيخ عيسى الطائيّ صورتين شعريتين تصفان هِمّة (أبي العلاء المعرّي)، فيخلعهما على القنصل البريطانيّ (وينجيت) ساعةَ نزوله من (الماشوّة) فجاس خلال (ظَفار) ليقف على مآثرها ويستكشف خوابي تاريخها. غير أنّ شيخنا الطائيّ أملاه على ناسخ كتبه عيسى بن عبد الله البُوشَريّ(20)، وقد وقع في البيت (تصحيف)، فجاء عَجُز البيتِ صدرًا، وصار الصدرُ عَجُزًا، واستبدل الطائيُ مفردة (الصباح) بلفظة (النهار)، وأتى بـ(المناصل) محلّ (الصوارم)، ولم يتغيّر معنى البيت ولم تفسد صوره الشعريّة، بل إن التصحيف زاده بلاغة وجمالا. وأصل البيت:[وَأَغْدُو وَلَوْ أَنَّ الصَّبَاحَ صَوَارِمٌ وَأَسْرِي وَلَوْ أَنَّ الـظَّلَامَ جَحَافِلُ](21). وفي هذا البيت يقدم المعري "صورتين شعريتين يبين من خلالهما حزمه وإقدامه في تحقيق معالي الأمور من خلال أسلوب المطابقة بين تركيبي الشطر الأول والثاني، وما في كلا الصدر والعجز من تصوير فني، حيث صوّر الصباح بالصوارم (السيوف) التي تُسَلُّ عليه، ومع ذلك هو يغدو نحو غايته ولا يأبه، وصور الظلام بالجحافل (الجيوش)، ومع ذلك يسعى إلى هدفه في هذا الليل. وهذا البيت كناية عن صراعه المستمر مع الزمن فلا يسمح له أن يثنيه عن مرامه. ونلاحظ أنه استخدم الفعلين (أغدو– أسير) بصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار"(22).

"الطائيّ وسُنَّة الاستبدال والتداول"

- يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(وَلَقَدْ كُنَّا - نَحْنُ مَعَاشِرَ المُسْلِمِيْنَ - أَيَّامَ يَقْظَتِنَا وَاسْتِقْبَالِ أَمْرِنَا وَالدَّهْرُ دُولٌ- أَشَدُّ صَبْرًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْأُوربيين وَأَحْمَلُ لِلْخُطُوبِ، وَأَكْثَرُ تَجَلُّدًا، وَأَعْظَمُ رَغْبَةً فِي الاطِّلَاعِ وَالْوقُوفِ عَلَى مَآثِرِ الْأَوَائِلِ وَالْكَشْفِ عَنْ حَالِهِمْ؛ وَلَكِنِ الْيَوْمَ قَدِ اِسْتَوْلَى الْكَسَلُ عَلَيْنَا؛ فَصِرْنَا فِي سُبَاتٍ بَعْدَ الْيَقَظَةِ! وَتِلْكَ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ. {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس})].

نستشعر في هذه الفقرة من مخطوط (كشف الستار عن حالة ظَفار) قلب الشيخ عيسى الطائيّ وهو يعتصرُ ألمًا، وينزُّ وجعًا، وينزف حسرةً، على ما أصاب أمة (اقرأ) في سائر الأصقاع، من تراجع فكريّ، وانحسار حضاريّ، حيث تكاد شمسها تغرب في أتونه، ودَلَّ عليه توظيفه لـ(كان الناقصة) مقرونةً بأسلوب الاختصاص (وَلَقَدْ كُنَّا - نَحْنُ مَعَاشِرَ المُسْلِمِيْنَ) متقصِدًا التعميم؛ فلا استثناءَ لأحد - الأمم والجماعات والأفراد - من وضعيّة التردّي التي انزلق إليها الجميع، حيث جرت عليهم – وهُم في سباتٍ عميق - "سنَّةُ التداول والاستبدال، وما تنطوي عليه من التعاقب والتناوب، وصعود الحضارات وسقوطها، وميلاد الأمم ووفاتها، ونشوء الدول وزوالها، وتداول القيادة وتناقلها؛ وكان ذلك بالانقلاب من حال الريادة إلى ما نعيشه من تراجع وانزواء، وتلك الحال مؤطّرةٌ بالقاعدة القرآنية {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]؛ حيث بيّن القرآن أن الإنسان هو مركز الثقل في حركة التاريخ، وأوكل إليه مهمة البناء والتغيير، وكلَّفه بتحقيق الخلافة الإلهيّة على الأرض وإنشاء العمران"(23).

يتبع...

 

المراجع والإحالات:

(01) Catalogue Of The Watercraft Collection In The United States National Museum, Smithsonian Bulltin, 127(1923):264-6

(02) ذاكرة السفن الشراعية في الخليج العربي، ديونيسيوس آ.آ جيوس، ترجمة: عبد الإله الملح، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، ط1، 2009، ص: 140، 141

(03) أوضاع عمان الداخلية في عهد السلطان تيمور بن فيصل (1913-1932)، عبد الله بن سعيد المرزوقي، الجمعية العمانية للكتاب والأدباء، 2022م، ص: 127، 130

(04) المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، دار القلم، الدار الشامية - دمشق، بيروت(1430هـ - 2009م)، ص: 517

(05) القاموس المحيط: ج ٣ ص: ٩٢

(06) راجع: أوضاع عمان الداخلية في عهد السلطان تيمور بن فيصل، ص: 17، 125، وموسوعة عمان (الوثائق السرية)، مج 1، ص: 240، والتطورات السياسية في عمان وعلاقاتها الخارجية (1913-1932)، خليل المشهدانيّ، ماجستير بجامعة بغداد 1986، ص: 11

(07) ديوان جرير، شرح محمد بن حبيب، تحقيق: نعمان محمد أمين طه، دار المعارف، القاهرة، ط 3، 1986، 3/1034

(08) النكت والعيون، تفسير الماورديّ البغداديّ(ت، 450 هـ)، تحقيق: السيد عبد الرحيم، دار الكتب العلمية، بيروت، 3/230

(09) مالك بن أنس الحميري (ت، 179هـ)، الموطأ، صححه وخرّج احاديثه محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربيّ، بيروت، 1985م، 2/981

(10) شعر بني تميم في العصر الجاهليّ، جمع وتحقيق: عبد الحميد المعينيّ، منشورات نادي القصيم الأدبيّ، بريدة، 1982، ص: 85

(11) زهر الأكم في الأمثال والحكم، الحسن اليوسيّ، تحقيق: محمد حجّي، ومحمد الأخضر، دار الثقافة، ط1، 1981، 3/197

(12) انظر الموسوعة الحديثية، الراوي: عقبة بن عامر | المحدث: الألباني | المصدر: صحيح النسائي | الصفحة أو الرقم: 564 | خلاصة حكم المحدث: صحيح | التخريج: أخرجه النسائي (565) واللفظ له، وأخرجه مسلم (831) باختلاف يسير.

(13) المحيط في اللغة، الصاحب إسماعيل ابن عباد (المتوفى: 385 هـ)، ط 1، ج8،  1994م، ص: 392

(14) خبير الأرصاد الجوية السعودي الدكتور خالد الزعاق، نقلا عن موقع العربيّة نت https://www.alarabiya.net/saudi-today/2023/07/13/

(15) التراث والتاريخ، شوقي جلال، سيناء للنشر، القاهرة، 1995

(16) المفضليّات، المفضّل الضبيّ (ت،178هـ)، تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر، وعبد السلام هارون، دار المعارف، القاهرة، ط6، د.ت، 320

(17) موجز تاريخ علم الآثار، غلين دانيال، ترجمة عباس سيد أحمد، ط1، دار الفيصل الثقافية، الرياض، 2000م، ص: 17

(18) ديوان المهلهل، شرح وتحقيق: أنطوان محسن القوّال، دار الجيل، بيروت، ط1، 1995م، ص:32

(19) إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت، السيد عبد الرحمن بن عبيد السقاف، دار المنهاج، ط1، بيروت، 2005، ص: 43، 73، 238.

(20) لقب (البوشريّ) منسوب إلى (أبي بشر الطائيّ) أحد أعلام وعلماء الطائيين وتسمت على اسمه ولاية (بوشر)، حيث تعرَّض اسم الولاية على ألسنة الناطقين إلى الحذف من بنية الكلمة (أبو بِشر) فصارت (بوشر)؛ وذلك لأن العرب تنفر مما هو ثقيل في لسانها، وتميل إلى ما هو خفيف، وقد اتخذت ظاهرة الحذف في اللغة العربية مظاهر متعددة، فلم تقتصر على بنية الكلمة المفردة فقط، بل شملت أيضا بنية الجملة العربية والتراكيب النحوية على اختلاف أنواعها. راجع: ظاهرة الحذف في ضوء الاستعمال اللغوي، د. إبراهيم محمد أبو اليزيد خفاجة، مجلة المجمع الجزائري للغة العربية، مج 8، عدد: 2، سنة 2012

(21) ديوان سقط الزند، أبو العلاء المعري، دار بيروت وصادر، 1957، ص: 194،

(22) تجليّات الهِمّة عند المعري، دلال إبراهيم كايد، المجلة الدولية للدراسات اللغوية والأدبية والعربية، مج1، العدد: 2، 2019م.

(23) راجعْ: السنة الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية، عبد العزيز ناصر الجليِّل، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1993م/ ص: 53/ سنة التداول والنصر والتمكين في قصص نبيِّنا الأمين، رشيد برشو، مجلة الدراسات الإسلامية، مج10، عدد: 1، ، يناير 2022، ص: 79السنن الكونية والاجتماعية في القرىن الكريم، توفيق بن أحمد.