الحاج مصبح الصحاري حاكماً للعراق (1)

 

الدكتور سعيد بن سليمان العيسائي *

حديثنا اليوم في هذا المقال شيق ومتشعب وذو شجون، ومفتاح شخصية مقالنا هو الحاج مصبح الصحاري العماني، الذي كان مثالاً للتسامح والانفتاح على الآخرين في وقت قلَّ أن تجد فيه هذا النوع من الشخصيات ذات الخلفيات الدينية، التي تتمتع بهذ النوع من التسامح، خاصة في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، لأنه سيأخذنا إلى عوالم وقضايا ذوات صلة بالتسامح والتعايش والتعددية وقبول الآخر وإعلاء المصلحة العُليا للوطن.

عرفت الحاج مصبح في طفولتي بحكم الجوار، وكان يزور والدي رحمة الله عليهما، وعلى علاقة طيبة به، وقصة هذا الرجل غريبة وممتعة؛ حيث تزوج ثلاث نساء: الأولى: من أقاربه عربية إباضية، والثانية: بلوشية سنية والثالثة: عجمية شيعية. فكأنما استطاع بهذه الزيجات أن ُيرِضي معظم الشرائح في صحار.

وأتذكر أن الحاج مصبح كان إمام مسجد، وكان يتمتع بروح مرحة، وظريفاً مع اتزان على غير عادة ذوي الخلفيات الدينية.

وهذ النموذج وغيره من النماذج الرائعة، وهو ما حدا بي لتخصيص مبحث صغير عن التسامح الديني، والانصهار المذهبي في صحار في بحثي المنشور ضمن إصدارات المنتدى الأدبي بعنوان: "الحياة الثقافية في صحار"، وذكرت أن هذا السبب وغيره من الأسباب هو ما شجع الحياة الثقافية في هذه المدينة.

ونُشير إلى أنَّه كان يوجد في صحار يهود، وعدد من الطائفة البهائية يعملون في سوق صحار القديم، الذي تحدثت عنه في مقالات إذاعية وتليفزيونية، وتخصص أتباع الطائفة البهائية في تصليح الأجهرة الإلكترونية من أواخر الستينيات، أو قبل ذلك.

وكان منهم زميل لي في المرحلة الإعدادية، كان أبوه من أوائل من افتتحوا عيادات للأسنان في صحار، وقد شاهدت طبيب الأسنان رضواني ينتقل في صحار بدراجته الهوائية (سيكل) في بداية السبعينيات من القرن الماضي، ولم أكن أعلم أنه بهائي إلا في مرحلة متأخرة، وقد رأيت أتباع هذه الطائفة بنفسي في سوق صحار القديم.

سردتُ قصة الحاج مصبح لأستاذنا السيد الدكتور/ محمد كاظم البكاء، وهو عالم من علماء النحو، وله كتابات قيمة تعد مرجعاً في المذهب الشيعي، وقد تزاملنا أنا وأستاذنا الدكتور في كلية التربية بصحار عام 2003، وهو عام سقوط بغداد، فأعجب بها، ورد قائلاً: لو كان الحاج مصبح عراقياً لرشحناه لرئاسة العراق.

وذكرتها مرة لأخينا وزميلنا الدكتور علي اللواتي أستاذ التاريخ بالكلية سابقاً فاستظرفها، واستملحها، ونالت إعجابه، وسنجعل من حكايات الحاج مصبح منطلقاً للحديث عن العلاقات العمانية-العراقية، وأبدؤها بالعلاقة الحميمة التي ربطتني بالأخ الدكتورعلي القريشي، زميلي في الكلية بسبب التلاقي الفكري؛ فهو أحد كتاب مجلة العربي الكويتية، وكتب كتابه المعروف: "البديل الإباضي وفن الممكن"، وقد زار "غرداية بوادي ميزاب" في الجزائر، والتقى بعلماء الإباضية هناك، وطبع الكتاب طبعتين ثانيها في مكتبة الاستقامة بمسقط، وأشرف عليه الأستاذ الدكتور سعيد إسماعيل مصري الجنسية، الحائز على جائزة الدولة التقديرية، وكانت أطروحته عن المفكر الجزائري "مالك بن نبي".

وكان الدكتور علي وفياً لأستاذه، ويشيد به، ويذكره بخير دائماً، وأذكر أن الذي أخبرني عن الدكتور علي، هو عمي المرحوم أبو خليفة، الذي أمضى أجمل سنوات عمره في العراق حيث التقى بالدكتور علي بالصدفة، وأخبره أن ابن أخيه يعمل في كلية التربية بصحار، وأعطاه اسمي، وجاء بعدها الدكتور علي في اليوم الثاني يسأل عني، ومن هنا بدأت العلاقة الطيبة التي تقوم على الفكر الثقافة والحب لمصر والعراق، والعمل في القطاع التربوي والتعليمي.

وأتمنَّى أن تسنح الفرصة للكتابة عن العم (أبو خليفة)، وذكرياته الجميلة، وقصصه الممتعة في العراق التي أمضى معظمها في معسكرات التدريب مع غيره من الشباب الراغب في التغيير في الستينيات من القرن الماضي مع الجهات التي كانت تتخذ من العراق وسوريا وغيرها من الدول العربية مقرًّا لها.

وأُشير هنا إلى أنَّ بداية معرفتي بالعراق كانت عن طريق والدي رحمه الله؛ حيث كان يصطحبني معه إلى سوق صحار لنشتري "كوارة" التمر العراقي اللذيذ، الذي تأتي به السفن إلى ميناء صحار في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وعلمت بعد ذلك أن هذا التمر هو من أجود تمور البصرة، مدينة الدكتور علي، الذي أشرنا إليه.

وعندما التحقت بالمرحلة الجامعية بجامعة الملك عبد العزيز بجدة في المملكة العربية السعودية في قسم اللغة العربية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، كان لي الشرف أن درست مادة النحو والصرف على يد الأستاذ الدكتور المعفور له بإذن الله تعالى عبدالهادي الفضلي، الذي درس في العراق ومصر، وله العديد من الكتب في المدارس النحوية والقراءات، وكتابات في المذهب الشيعي؛ إذ يعد أحد الذين يستفاد من علمهم ومؤلفاتهم في هذا المذهب من أهل المنطقة الشرقية.

أهديناه أنا والأخ الدكتور راشد الحسيني، هو وغيره من الأساتذة بعض مطبوعات وزارة التراث القومي والثقافة في النحو والصرف والشعر، وتم اختيار أستاذنا الدكتور المرحوم رئيساً لقسم اللغة العربية وآدابها بترشيح الأساتذة كما حدثني بذلك أستاذنا الدكتور عبدالمحسن فراج القحطاني أحد أساتذة القسم آنذاك، وأحد الذين تشرفت بالتتلمذ على أيديهم.

وبحكم أن أستاذنا الدكتور الفضلي أمضى سنوات من عمره في العراق يحدثني أنه كان هناك ليمون يأتي من البصرة إلى مدن العراق يسميه العراقيون "نومي بصرة". ويقول أستاذنا: كثيرٌ من الناس لا يعرفون أن هذا الليمون يأتي من صحار، وبعض الولايات الساحلية القريبة منها في سفن إلى ميناء البصرة، ومن ثم يتم توزيعه على مدن العراق، فتوهم الكثير من العراقيين أنه ليمون بصراوي، علماً بأن الليمون لا يزرع في البصرة، والمقصود به هنا هو "الليمون المجفف"، الذي يستخدم في السلطات والأطعمة، وبخاصة الترشي العراقي، وشاي الليمون عند العمانيين، وغيرهم قبل أن يعرف سكان المنطقة الشاي. وروى لي أخي وزميلي الدكتور علي القريشي أنه في رمضان لا يكاد يخلوا بيت في العراق من عصير (نومي بصره) البارد المثلج وبخاصة على مائدة الإفطار.

ومن القصص الطريفة التي رواها لي معالي السيد محمد بن أحمد البوسعيدي المستشار الخاص لجلالة السلطان قابوس للشؤون الدينية والتاريخية -رحمهما الله- أنه عندما كان وزيراً للداخلية أرسله السلطان الراحل على رأس وفد للعراق في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وحدث له موقفان أثناء وجوده في بغداد، يقول معاليه: إنه ألقى خطاباً أمام عدد من أعضاء حزب البعث، واستفتحه ببيت الشاعر/ هلال البوسعيدي، الذي يقول فيه:

إن ما يربط العراق بنزوى  ... من قديم روابط من إخاء

فقاطعه أحد أعضاء حزب البعث متسائلاً عن هذه العلاقة التي يشير إليها الشاعر؛ مما حدا بمعالي السيد إلى أن يشرح بالتفصيل هذه العلاقة القديمة، وأهمها استنجاد أهل البصرة بأحمد بن سعيد، الذي أرسل أسطولاً بحرياً لمساعدة أهلها في مواجهة الفرس، وتسمى هذه المساندة، أو المساعدة بــ"النجدة العمانية للبصرة".

وقد أشرت إلى هذه القصة في أطروحتي للماجستير التي طبعتها مكتبة الضامري التي عنوانها: "الأبعاد العربية الإسلامية في الشعر العماني الحديث".

 

* كاتب وأكاديمي

تعليق عبر الفيس بوك