موظفو الخدمات الأرضية بمطار مسقط الدولي يُعانون

 

 

علي بن سالم كفيتان

ينتابني شعور بالفخر عندما أرى ذاك الشاب أو تلك الفتاة العُمانية بذلك اللبس الأنيق في رُدهات مطار مسقط الدولي، متأبطين برقياتهم التي لا تهدأ عن النداءات والملاحقة لتنبيه المسافرين، وتوجيههم إلى بواباتهم، وتقديم الخدمات لكبار السن والأطفال والمعاقين، رأيت في عيونهم الصدق والإخلاص وحب الوطن، تارة يركضون، وتارة يسوقون العربات التي تحمل المسافرين، وتارة تجدهم متسمِّرين عند المداخل والمخارج وأمكنة الحقائب، تعلو وجوههم ابتسامة عريضة وترحاب عميق بالجميع، يجيدون لغات متعددة ومهارات تواصل عالية مع الجميع، وبهذا هم يرسمُون الانطباع الأول لكل قادم إلى بلادنا الحبيبة، وهم أصحاب الابتسامة الأخيرة عند المغادرة، والتي تبقى في الذكريات، وتعمل مفعول السحر لكل قادم حتى يتمنى أن يعود إلى عُمان، فقد ذابت ذواتهم في ذات الوطن.

في آخر سفرة إلى صلالة العامرة قبل أسبوع، صادفتُ مسافرًا في إحدى قاعات الخدمة بالمطار، جلس إلى جانبي على طاولة للطعام، ومن خلفنا يتسلل غروب مسقط الجميل من النوافذ العملاقة في القاعة، رحَّبتُ به بابتسامة عريضة، وبادرني بالتعريف بنفسه قائلاً: "أنا من الكويت، وأول مرة أنزل عُمان"، لم أسأله عن سبب زيارته من باب عدم الفضول، لكنه استرسل معي في حديث من القلب، حيث كان منبهراً بالشعب العُماني وخدمات المطار الراقية، ولعل أكثر ما ألهمه هذا الاندفاع والحديث هو شابة عُمانية تعمل بالشركة المنوط بها تسهيل الخدمات الأرضية بالمطار، ولا يذكر إلا اسمها الأول "مديحة"، ويتأسف على عدم أخذ اسمها كاملًا ولا رقمًا للتواصل معها ليشكرها على ما قدَّمت له من تسهيل وهو قادم في رحلة متأخرة عن موعدها وفاتته رحلته إلى بلده، يقول كُنت متوترا ومستاءً بكل معنى الكلمة، لكنها رحَّبت بي أيَّما ترحاب، وساندتني في الحصول على أقرب رحلة لبلادي، وهي بعد ساعتين من الآن، يقول: كانت مديحة تركض في كل اتجاه بعد أن أجلستني على مقعد بوسط ردهة المطار، وفي كل مرة تعود إليَّ كالنحلة التي تجمع العسل، وتأخذ مني ما تطلبه شركات الطيران من ثبوتيات وأوراق، ومن واقع تجاربي المريرة مع مطارات عربية وحتى خليجية، لم أكن واثقًا في نتيجة كل ما تفعله هذه الشابة العُمانية، وفي الغالب كنت أخطط لحجز فندق إلى أن أجد رحلة لاحقة للكويت، رُبما في اليوم التالي أو الذي يليه، لأجدها تصطحبني إلى الكاونتر لإنهاء إجراءات السفر بعد ساعتين لا غير، وها أنا أمامك أخي، وقد أخذت جرعة احترام وحب جديدة لعُمان وشعبها وسلطانها، رغم أني مسافر ترانزيت، ولم أزر عُمان من قبل، إلا أنني قررت العودة بكل تأكيد لزيارة هذا البلد العظيم وشعبه الودود الكريم.. هكذا فعلتْ مديحة (أو ممدوحة) في قضون ساعتين لا غير وليس لديَّ شك أنهم جميعاً يشبهونها. 

غادرَ الرجل وهو يحمل آيات الامتنان لعُمان وشعبها، وكانت رحلتي متأخرة قليلاً فجرَّني الفضول من واقع هذا اللقاء للسؤال عن أوضاع هؤلاء الموظفين، وأنا في طريقي للنزول وجدت أحدهم وقد تقدم إليَّ قائلاً: "صلالة؟" يقصد أنت على رحلة صلالة؟، فأجبتُه: نعم، فأرشدني إلى البوابة البديلة لتلك التي كانت مكتوبة في بطاقة صعود الطائرة من قبل، وعرض عليَّ التوصيل بالعربة فوافقت، وهنا كانت الفرصة للحديث مع جندي يُرابط في ثغر من ثغور عُمان ببزته الزرقاء الداكنة وربطة عنقه الأنيقة وشكله المهندم، بادرني بالحديث عن الخريف، فلا حديث يعلو عن ظفار وطقسها الاستثنائي في هذه الأيام، لكنه تأسَّف أنه لا يستطيع الذهاب إلى صلالة هذا العام، فتوقعت لظروف العمل، لكنه قال لي بصوت منخفض: الراتب لا يسمح لي بذلك يا عم، فجرَّني ذلك للسؤال عن الراتب، فسكت قليلاً ثم قال: أخبرك ولا تخبر أحدًا، فتوقعت الأجر سيكون كبيرا، فقال لي وهو منكسر: 320 ريالًا فقط ومن عدة سنوات، فذُهِلت لِمَا سَمِعت.

عندما استقصيتُ عن الموضوع، علمت أنَّ الخدمات الأرضية تُوْكَل لشركات بموجب عقود، وهي بدورها توظف عُمانيين وفق السقف الأدنى للراتب الذي وضعته وزارة العمل 320، مع غياب المكافآت والحوافز وانعدام العلاوات، الكثير من هؤلاء اليوم متزوجون بقروض بنكية، والبعض الآخر أخذ تمويل لسيارة، أو بمساعدة أهله، فقلت لهذا الشاب: ولماذا لم تقدموا شكوى لوزارة العمل؟ فقال بأسى: إذا كانت هي من فصل هذا الراتب، فكيف نشتكي لها؟ وثانياً إننا نخاف من إقالة الشركة في حال تقديم شكوى، ومصيرنا سيكون إلى السجن إن لم نستطع الإيفاء بالتزاماتنا للبنوك وشركات التمويل، فشعرت بأسًى عميق، أزاح فرحتي وافتخاري عندما قابلت العابر الكويتي، فهل من منقذ لهؤلاء المخلصين لتحسين رواتبهم ومنحهم العلاوات والمكافآت التي تليق؟ فهم واجهتنا للعالم... حفظ الله بلادي.