أ. د. حيدر أحمد اللواتي **
يُحكى أن أحد العلماء، شاهد أحدهم يسرق طعاماً من الباعة في السوق، وبعد ذلك يقوم هذا السارق بالتصدق بذلك الطعام على الفقراء والمحتاجين، فاستغرب العالِم من صنيع هذا الرجل واستفسر منه، فأجابه ذلك الرجل بأنَّ السيئة لا تجزى إلا بمثلها أما الحسنة فبعشر أمثالها، وبسرقته للطعام ومن ثم تصدقه به كسب تسع حسنات!
بهذا المنطق المعوج قام هذا الرجل بتبرير سرقته للطعام من الباعة، لكن ما قام به هذا الرجل، قام به العديد منّا، فظاهرة التبرير من أعقد الظواهر النفسية، فهي تختلف في دوافعها عن الكذب، ففي الكذب يعلم الإنسان أنه يكذب وأنه يكذب خوفاً من الآخرين كخوفه من أن يفقد مقاماً عندهم، لكن التبرير هو محاولة من الإنسان لإسكات ضميره وإقناعه بأن ما قام به أو يقوم به أمر لا يخالف القيم والمبادئ التي يؤمن بها، ومن هنا تجده يطرح التبريرات لعمله لا خشية من الآخرين فحسب بل حتى يسكت ضميره أيضا ويحاول أن يطرح حلا للتناقض بين سلوكه وقيمه ومبادئه التي يؤمن بها.
ومن الملاحظ أن العالِم في أي مجال كان، أكثر قدرة وتمكٌنا من التبرير من غيره، لأن المعرفة والعلم سلاحان يستخدمهما العالِم ويستغلهما لتبرير أفعاله، وإيجاد تفسيرات بديلة تبرر موقفه واعماله وآرائه التي يتبناها، فقد لاحظنا كيف أن البعض ممن حباه الله بالمعرفة والعلم برّر وبأعذار مختلفة أعمالا أدت إلى فتن وتمزيق للمجتمعات وبلغ بعضها حدا بأن كانت تدعو للمقاطعة بين الأخ وأخيه لخلاف فكري، بل أودت في أحيان أخرى الى القتل والتدمير أيضا، فالكثير من الأفكار المتشددة التي انتشرت في فترات مختلفة في عالمنا الإسلامي كان هناك من العلماء من يبررها ويدعمها بنصوص من القرآن والسنة الشريفة.
وهكذا الحال مع مبرري الحرب الغاشمة على غزة، فتجدهم يبررون لأنفسهم كل هذا الظلم الذي لحق بأهلنا في غزة، بمبررات واهية تضحك الثكالى ومع ذلك يدّعون أنهم مدافعون عن حقوق الإنسان ورافعون شعار الدفاع عن المظلوم!
ولهذا.. فإن التبرير عندما يصدر من العلماء والخبراء يكون أشد ضررا وأكثر خطورة، إذ يسري هذا التبرير لمريديهم ومتابعيهم، فيبررون مواقف العالِم أيضا، وعلى الرغم من مخالفتها للعقل والمنطق، فإن البعض منهم قد يلجؤون إلى محاولات تشكيك الآخرين بقدرتهم العقلية على التمييز بين الحق والباطل والصواب والخطأ وأن العالِم يملك من العلم ما لا يملكونه، ولذا فلا يحق لهم محاسبته أو تقييم ما بدر منه، وبذلك فهم يهدمون الركن الركين الذي به يفرّق الإنسان بين الحق والباطل.
ريتز هابر أحد علماء الكيمياء الذين ساهموا مساهمة فاعلة في تطوير الأسمدة الكيمياوية، وذلك عبر تطويره لطريقة لإنتاج الأمونيا، ومساهمته هذه منحته جائزة نوبل في الكيمياء وذلك عام 1918؛ حيث اعتُبِر أنه ساهم وبشكل فاعل في توفير كميات ضخمة من الأسمدة المحتوية على النيتروجين وزيادة نسبة المحاصيل الزراعية في العالم بأسره.
لكن هذا العالِم الألماني ساهم أيضًا في تطوير الأسلحة الكيميائية القاتلة والتي استخدمت بشكل كبير وفاعل في الحرب العالمية الأولى، والتي عدت حربا كيميائية بامتياز نظرًا لكثرة الأسلحة الكيميائية التي تم استخدامها في تلك الحرب؛ حيث كان السلاح الكيميائي هو السلاح الأكثر فتكًا في ذلك الوقت، ولذا سعت الأطراف المتصارعة الى امتلاكه لأنها كانت تدرك بأنه سيكون عاملا حاسما في هذه الحروب.
ساهم فريتز هابر في تلك الحرب في إنتاج قنابل ومتفجرات شديدة الانفجار والتي تحوي على نترات الأمونيوم، وهي المادة التي انفجرت في العاصمة اللبنانية بيروت في أحد المخازن ونتج عنها خسائر كبيرة وذلك في أغسطس عام 2020.
كما ساهم هذا العالِم في تطوير أسلحة كيميائية تسببت في الملايين من الاصابات التي لحقت بالمقاتلين وقتلت ما يقارب من 100 ألف.
وعلى الرغم من فداحة الجرم الذي ارتكبه، إلّا أنه دافع عن نفسه وبرر جرائمه بأن سعيه لتطوير هذه الأسلحة الفتاكة كان لهدف نبيل وسامٍ وهو إنهاء الحرب بصورة سريعة، ولذا كان يعتبر نفسه من دعاة السلام، فلقد ساهم في القضاء على الخصوم بسرعة فائقة، والحمد لله فلم يصل في تبريره إلى مطالبته بحق الحصول على جائزة نوبل للسلام!
وهكذا كان الحال مع أبي القنبلة الذرية روبرت أوبنهايمر، فهذا العالِم الشهير يعد العقل المدبر والمشرف على مشروع مانهاتن لصناعة القنبلتين الذريتين التي أسقطتهما الولايات المتحدة على مدينتي هيروشيما وناجا زاكي اليابانيتين في الحرب العالمية الثانية والتي أودتا بحياة الملايين من البشر، ولكن وعلى الرغم من كل ذلك الدمّار الذي نتج عن عمله، لم يتراجع أو يظهر الندم على فعله؛ بل بررّ ما قام به بأنه وسيلة مُهمة ومؤثرة لوقف الحرب وسفك مزيد من الدماء وإزهاق الأرواح!
إنَّ هذه الأمثلة تنبهنا الى أمر في غاية الأهمية، وهي أن الإنسان يمتلك قدرة غير محدودة لتبرير ما يقوم به، فحتى الجرائم التي يرتكبها، يمكنه أن يجد لها تبريرًا، وخاصة إذا كان المتحدث يمتلك علما وقدرة على التعبير، فيقلب الحق باطلا والباطل حقا، فعلينا ألّا نغتر بالمتحدث؛ بل علينا أن نزن الحديث الذي تحدث به بميزان العقل والضمير، فهيبة العالِم ونفوذه وسلطته لا تبرر منطقه المعوَج، والهراء يظل هراء حتى وإن تحدث به عالِم من العلماء.
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس