أ. د. حيدر أحمد اللواتي **
يُعد مرض السكر من أكثر الأمراض شيوعًا؛ بل يُعد من أكبر التحديات التي تواجه البشرية جمعاء، ولا أظن أنني أحتاج أن أذكر بعض الأرقام التي تدعم هذا الأمر، فنادرًا ما نجد أحدًا لا يعلم إنسانًا عزيزًا عليه مصاباً بهذا الداء، لكن الذي لا يعلمه البعض أنَّ صناعة السكر قامت بتشريد واستعباد الملايين من الأفارقة، وتشريدهم، ليس من قراهم فحسب؛ بل من قارتهم إلى قارة أمريكا الجنوبية، كل ذلك من قبل دعاة حقوق الإنسان اليوم من الأوروبيين، وخاصة البريطانيين والفرنسيين.
لقد قاموا بتشريد واستعباد ما لا يقل عن أربعة ملايين أفريقي حملوهم في سفن ليعبروا بهم المحيط الأطلسي إلى البرازيل حتى قيل "لا برازيل بدون سكر ولا سكر بدون عبيد ولا عبيد بدون أنغولا"، ويبدو أنَّ العالم آنذاك لم يكن يعبأ كثيرًا بما يحدث أو كان يتغافل عمّا يحدث، فلقد انتشى وأعجب بهذه المادة حلوة المذاق، ولذا غدت العمود الفقري لاقتصاد العالم برمته بين عامي 1600 و1800 ميلادية، لكن سكوت العالم على الظلم الذي لحق بهؤلاء الأفارقة الذين تم استعبادهم لم يمضِ دون عقاب جماعي، فكأننا اليوم ندفع ثمن الظلم الذي تم السكوت عنه، فلعنة السكر تُعاني منها جميع المجتمعات البشرية.
ويبدو أنَّ الأمر ذاته سيحدث بسبب سكوت العالم عن الحرب الظالمة على غزة، فلقد أشارت دراسة حديثة نشرت في هذا الشهر عن الآثار السلبية التي ستخلفها هذه الحرب على كرتنا الأرضية برمتها، وذلك من خلال حساب كمية الغازات الدفيئة المنبعثة من هذه الحرب الغاشمة. والغازات الدفيئة هي غازات لها القدرة على امتصاص الأشعة تحت الحمراء؛ أي أن لها القدرة على امتصاص الطاقة الحرارية الكلية؛ فهذه الغازات تمنع الطاقة الحرارية من مغادرة سطح الأرض وهو ما يؤدي إلى الاحتباس الحراري، ويعتبر غاز ثاني أكسيد الكربون، والميثان، وأكسيد النيتروز من أهم الغازات الدفيئة.
الدراسة المذكورة قام بها علماء في بريطانيا من جامعة لندن وجامعة لانكستر، إضافة إلى علماء من سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة، وجامعة الطاقة والموارد الطبيعية في غانا، وقد أشارت الدراسة المعنية إلى أن الانبعاثات الكربونية في أول 120 يومًا من الحرب على غزة تجاوزت انبعاثات 26 دولة، كلا على حدةٍ. وقد سببت طائرات الشحن الأمريكية والتي تنقل الإمدادات العسكرية لوحدها، نصف تلك الانبعاثات، علمًا بأنَّ الدراسة اعتمدت على تقديرات مُتحفِظَّة للغاية، وإلّا فإن الأرقام الحقيقية أكبر من ذلك بكثير، كما إن الدراسة لم تُشِر إلى الأثر البيئي الضخم للغازات الناتجة من مختلف أنواع الأسلحة الكيميائية والمشعة والمحرمة دوليًا ضد المدنيين، مثل استخدام الفسفور الأبيض واليورانيوم والعناصر المشعة وغيرها من الأسلحة الجديدة التي تم تجربتها في هذه الحرب.
ويُعلِّق الباحث المشارك الدكتور باتريك بيغر مدير أحد مراكز الأبحاث البيئية في الولايات المتحدة بقوله "يجب على المجتمع الدولي أن يضغط من أجل وقف إطلاق النار فحياة كل فرد في العالم لها أهمية كبرى"، ثم يستدرك بالقول: "لكن هذا البحث يوضح بعض الآثار الاجتماعية والبيئية طويلة المدى للحرب، وهو بمثابة تذكير بأن الصراع المسلح يجعلنا أقرب إلى شفا كارثة الاحتباس الحراري"؛ فالاحتباس الحراري الناتج من الغازات الدفيئة له تبعات كبيرة جدًا على البيئة والنظام الحيوي، فمن المتوقع حدوث كوارث ضخمة خلال العقود المقبلة؛ وسيتعرض العالم إلى ارتفاع غير مسبوق في درجات الحرارة في بعض فصول السنة مما قد يسبب حرائق ضخمة في مختلف الغابات والمدن.
إنَّ العالم يسعى ويبذل جهدًا جبّارًا لتخفيف انبعاثات الغازات الدفيئة من جهة ولكن كل تلك المحاولات تذهب سدى، عندما يلتزم الصمت على حرب ظالمة كالحرب التي تتعرض لها غزة، فالعدو الغاشم لم يدمر غزة فحسب بل دمر العالم أجمع.
علينا أن نوقف هذه الحرب، وإلّا فلعنة الحرب ستدمر العالم أجمع ولو بعد حين، وحرائق غزة اليوم، ستعُم العالم غدًا.
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس