خلوف.. الكهف المنسي

 

غنية الحكمانية

تزخر سلطنة عُمان بتنوعٍ تضاريسي ومَناخي مختلف، وتمتلك مقوّمات سياحية جاذبة، لها طبيعة جيولوجية متفرّدة تشكلت منذ الأزل عبر حِقَب مختلفة من الزمن؛ بفعل عوامل الطبيعة دون تدخلات تحسينية من البشر أو إعادة تشكيل أو ترميم أو تهيئة، سوى الحاجة إلى لمسات تطويرية بسيطة تضاف بحذاقةٍ إلى تلك البيئات الطبيعية المتباينة ما بين الجبال والمرتفعات والوديان والصحاري والسّواحل؛ لتصعد بها إلى مصافّ المزارات السياحيّة وتزاحم فيها المعالم الأكثر ارتيادا وانتعاشا؛ وتكون مصدرَ جذب سياحي واستثماري وتجاري فعّال يرفد أهل المنطقة والدولة بإيرادات مضاعفة.

عُمان بلد واعد سياحيًا، وكثير من مفاتنها لم تُكشف للجمهور بعد، ممّا يولّون وجوههم شطَر دولٍ أخرى كانت عُمان أولى أن تكونَ الكعبةَ الأولى للسياحة الداخلية والخارجية معًا، وتُستعاض عن بقية الدّول، فكل ربوعها تنبض بالحياة والجَمال والتاريخ.

ومن أروع المقاصد السياحية المنْسّي ذكرها، كهف "خلوف" الكائن في ولاية محوت بمحافظة الوسطى ويُسمّى أيضا بغار حومرات، للمكان رهبة تفوق الوصف وتجتاز الخيال. كانت لنا زيارة لخلوف صيف 2019، أثناء رحلتنا بالطريق المطلّ على بحر العرب إلى محافظة ظفار، تجوّلنا على ذلك الشاطئ الرملي المغطّى ببساط أبيض يلمع بريقه تحت لفحة الشّمس، لم نكن حينها على علم بوجود كهف هناك يخفيه البحر عن أنظارنا. كررنا الزيارة بصيف هذا العام للتجسيد الحيّ لمعالم وتفاصيل جماليات الكهف، لكن طريقة البحث عنه كانت مرهقة نوعاً ما، فعدم وجود لوحات إرشادية تدللّ على مساره ما كدّر صفو الرحلة. ومرشد خرائط جوجل قد بحّ صوته وطفح كيله من كثرة ترديد الوجهة، أنّه في ذات المكان يوجّهنا مرة يمنة ومرة يسرى ومرة فوق التلّ الصخري ومرة أسفله عند الشاطئ الصخري المتعرج، فنحن بالقرب منه نحوم حوله نوشك أن نصله ولكن لم نستطع إليه سبيلا. ورائحة السّمك المجفف الآسن ريحَه بكلّ أحجامه فوق كثبان الشاطئ الرملي تزكّم أنوفنا، فاقتحمتْ نوافذَ السّيارة وعلَقت بطرَفِ إطارها وأرْدفتْ خلفنا تتابعنا المسير.

وأخيرًا أقفلنا راجعين نجرّ أذيال اليأس بعد قطع مسافة لا تقلّ عن 400 كيلومتر، مع توقفات سريعة على المناطق السيّاحية في تلك الولايات التي مررنا عليها، أملًا في قضاء وقت أطول في الكهف. ونحن نغادر المكان كسرنا حاجز الصّمت مع شابّ من أهل المنطقة ساقه القدَر إلينا، مع طلب خجول منه عن وصفٍ دقيقٍ لمكان الكهف، فرّحب بكل سرور ولم يتوانَ لحظة عن تقديم المساعدة ليكون الدليل الصّائب. فرجعنا خلفه نقتفي أثره إلى ذات المكان السّابق إلى أن أوصلنا مشكورا إلى عتبة السّور بقرب المعمعة التي أحدثنا ضجيجها وذرعناها جيئة وذهابا ورجعنا منها بخفّي حنين.

المكان على ارتفاع من الأرض مسوّر بجدارٍ متهالك يمتدّ نهايته في البحر، وبه غرف صغيرة لصيقة الجدار من الداخل يوحي كأنه بيت مهجور، والسّور به مدخل دون بابٍ يغلق ستره، لم يخيّل إلينا البتّة أن الكهفَ كان منزوياً هناك، عبّرنا عن امتنانٍ عميق للشابّ الذي انتشلنا من يأس محبط في آخر اللحظات. دلَفنا إلى الداخل، فنَاء مستوٍ على هضَبة فسيحة بارتفاعٍ ثلاثة أمتار تقريباً عن سطح البحر، وثلّة من النّاس هناك، أحدهم ينتظر صيدا ثمينا تلتقطه صِنّارته، وآخر يحملق بصمت طيرا وديعا يداعب موجَ البحر كلما أقدم نحوه فرّ بجناحيه فوق التعرجات الصخرية، ومجموعة يفترشون الأرض يتداولون أطراف الحديث. لا زلنا نبحث عن موقع الكهف مرة أخرى وعلائم الدهشة ترتسمنا! وفجأة نرى أشخاصا يتقاطرون محْنيّة أعناقهم من فوّهة مستطيلة الشكل بين دفّتي جرُف صخري أسفل التلّ.

من مدخل سرّي وسردابٍ ضيّق وفي نفق مظلمٍ، ونتوءات صخرية مركوزة في السقف متدلّية منه، تُحبس فيه الأنفاس وتُخفض فيه الرؤوس، يتناهى إلى مسمعنا همس شجون البحر وتلاطم الموج على تلك الصّخور الصلدة، وانسياب نسيم معتدل من تجاويف الشقوق يزداد لطافته ونقاوته. يتّسع تجويف الغار شيئا فشيئا ويتبدد الظلام وينكشف النور إلى شاطئ يفيض بشاشة ورحابة، لوحة آسرة تخلب النّظر والإحساس، وإطلالة خلابة فاتنة تبدّد جهد البحث عن الموقع في ثوانٍ، فالسّكينة والسّلام تغمران النفس عنوةً، وتحلوان مع الذّات السّلوة والخلوة؛ نشدانًا للتأمل والسّكون، والتماسا للتناغم والانسجام. فالشّمس تزور الكهف من نافذته المفتوحة على مصراعيها من بزوغ قرصها إلى رحيلها بالغروب، وفي كل تخطيّاتها تضفي انبهارا لا مثيل له، وانعكاسا لسطعتها على الشاطئ الرملي السّكري، والمزدان بقواقع وأصداف بحرية زاهية جرَفها الموج من أعماق البحر. كانت تجربة ممتعة ومثيرة للغاية، لكنه كهف سُلِب حقّه من الظهور ومن التعريف بسِيرته ومسيرته، فلم يُخصّ بالعناية البليغة الذي يستحقها.

لا شكّ أنّ وزارة السياحة أولَت اهتماما كبيرا بالقطاع السياحي في السّلطنة، وفي تسليطها الضوء بإمعان على المواقع السياحية مع إصدارات تعريفية وتوجيهية. ما يبقى التركيز على إحياء بعض المواقع المتناثرة في أرجاء عُمان وأنحائها، وإضفاء واجهات جماليّة جاذبة، بنكهة تراثية تتخللها روح عصريّة؛ لاستقطاب المزيد من السّياح والزائرين إليها، وتعيينٍ لمرشدين سياحيين، يتناوبون التعريف المستفيض عن المكان والمعلَم السياحي. مع توفير خدَمات ومرافق تعمل على زيادة تنشيط الحركة التجارية والاستثمارية في المنطقة؛ تكون لها مردودا اقتصاديا وافرا. وتبقى وزارة السياحة هي الجهة الأحقّ باستجلاب ما يتناسب والمنطقة من أفكار ومقترحات تطويرية أخرى، لترفع اسم عُمان خفّاقا إلى صدارة الدّول السياحية بالعالم.

تعليق عبر الفيس بوك