اليمن بعيون عُمانية

 

د. محمد بن عوض المشيخي **

انتهجت السلطنة عبر تاريخها الطويل سياسة حكيمة أساسها القيم والمبادئ الراسخة التي تنطلق من الدين الإسلامي الحنيف والأخلاق الإنسانية السامية التي تحترم الإنسان وتضعه في المكانة التي يستحقها، مُطبِّقةً في ذلك موازين الحق والعدل لجميع البشر بدون تميز.

وقد ترتب على هذا المنهج القويم اعتماد الشفافية والوضوح والاحترام المتبادل للآخرين، خاصة ذوي القربى من دول الجوار؛ فلا توجد أطماع أو أجندة سرية في القاموس العُماني، فإذا كان هناك من يفتخر بصنع المؤامرات وإطلاق العنان للسيطرة على الآخرين دون مُبرِّر ونشر خطاب الكراهية والفتن بين الأشقاء والجيران بمختلف الأساليب، تارةً عبر منصات ما يُعرف بـ"الذباب الإلكتروني"، وتارة أخرى باستخدام منابر دعائية، وإن كانت تُطلِق على نفسها صحف مُهاجِرة تنشر وتتبنى لمن يدفع لها أكثر بعيدًا عن المصداقية والمهنية، فقد كان قَدرُ سلطنة عُمان دفع ثمن التزامها بمبادئها التي لا تجد بديلًا عنها؛ فهي على ثقة وقناعة بتلك المبادئ مهما كلفها من ثمن.

ولعل مقطع الفيديو المُتداول قبل أيام حول مزاعم تعذيب مجموعة من اليمنيين الذين عبروا الحدود العُمانية، يفتقد للمصداقية؛ لأنَّه عملٌ مُفبرَك، ومحاولة يائسة للنيل من سلطنة عُمان حكومة وشعبًا؛ فمواقف الحكومة المُتعلِقة بالقرارات السيادية للسلطنة؛ والمتمثلة في رفض المشاركة في حرب اليمن ثم نجاحها في محاصرة نزيف الدم والتوصل إلى حقن دماء الشعب اليمني، وذلك بالعمل على وقف إطلاق النار بين الحكومة الشرعية وأنصار الله؛ ربما يكون هو السبب وراء صناعة الأكاذيب وتدليس الحقائق بحق العُمانيين، الذين يُشار إليهم بالبنان في الصدق والعدالة واحترام حقوق الجيرة.

ومن حُسن الطالع أن أول من كذَّب ما تضمَّنه المقطع التمثيلي ومنذ الساعات الأولى لانتشاره عبر المنصات الرقمية، هم أبناء اليمن نفسه، من الذين عمِلُوا في السلطنة وتعرَّفوا عن قرب على ما يُكنّه العُمانيون من تقدير واحترام للأشقاء في اليمن؛ فالعلاقات العُمانية اليمنية نسيج واحد من التاريخ والثقافة والنسب والمصير المشترك، فهؤلاء التوأم؛ شعب واحد في دولتين جارتين، يسود بينهما الاحترام المُتبادل وحُسن الجوار، لِم لا ومعظم القبائل العُمانية هاجرت من اليمن عبر القرون دون انقطاع، بدايةً من انهيار سد مأرب ونزوح القبائل العربية إلى مختلف مناطق الجزيرة العربية وخاصة سلطنة عُمان؛ بل وحتى في العقود الأخيرة قبل ترسيم الحدود في منتصف التسعينيات من القرن الماضي في العاصمة اليمنية صنعاء. وأتذكر هنا كلمات مُعبِّرة عن متانة العلاقات بين البلدين للممثل الخاص للسلطان الراحل السيد ثويني بن شهاب آل سعيد- رحمهما الله جميعًا- وذلك على هامش توقيعه اتفاقية ترسيم الحدود بين عُمان واليمن؛ إذ قال: "نعود اليوم إلى أرض الأجداد التي نفتخر بالانتساب إليها"، والقصد هنا "عُمان" بالقرب من مأرب الذي هو في واقع الأمر وادٍ في اليمن، كان يسكنه الأزد قبل هجرتهم، فاطلقوا هذا الاسم الذي حملوه في ذاكرتهم على أرض السلطنة الحالية بدلًا من الأسماء القديمة وهما: مجان ومزون. ومن أبرز قبائل أو فروع الأزد هم البوسعيديون الذين تنتسب لهم الأسرة المالكة العُمانية العريقة.

لقد كانت لعُمان طوال العقود الماضية جهود خيرية في مساعدة الأشقاء في مختلف الميادين، منها تنفيذ العديد من المشاريع التنموية في المحافظات اليمنية المجاورة لعُمان؛ وخاصة محافظات المهرة وحضرموت وسقطرى، وقد تمثَّل ذلك في تسييرالقوافل المُحمَّلة بالمواد الغذائية إلى جانب الأدوية والمُستلزمات الطبية الضرورية، إضافة إلى رفد المراكز الصحية في تلك المحافظات بسيارات الإسعاف والمولدات الكهربائية والمشتقات النفطية لضمان استمرار عملها، في ظل ما شهدته البلاد من أزمات إنسانية بسبب الحرب، ومرات عديدة بسبب الأنواء المناخية والأعاصير المدارية التي ضربت اليمن في السنوات الأخيرة. كما قامت سلطنة عُمان بتنفيذ وسفلتت طريق "المزيونة- الغيضة" قبل عدة عقود؛ وبالطبع لا خير في إنسان أو شعب بات شبعان وجاره جائع، أو كما قال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى الإنساني.

من هنا تغمرني السعادة الدائمة عند ما أرى الأشقاء اليمنيين في بلدهم الثاني سلطنة عُمان، سواء للعمل أو العلاج في مشافي صلالة ومسقط، فكنت أقول لهم "أنتم لستم ضيوفًا في هذا البلد؛ بل شركاء وأهل"، وأُذكِّرهُم بكلام آبائنا وأجدادنا الذين أوصونا خيرًا باليمن وشعبها؛ فهناك مواقف لا تُنسى في الكرم وتقديم يد العون من الشعب اليمني عندما كنت عُمان تُعاني من الفقر والجهل قبل ولوجنا إلى النهضة العُمانية المعاصرة، فقد كان اليمن فاتحًا ذراعيه للمهاجرين والعابرين إلى دول الخليج من العُمانيين، خاصة تلك الدول التي ظهر فيها النفط مثل الكويت والبحرين وقطر؛ حيث قام الأشقاء في اليمن خلال الخمسينيات والستنييات من القرن الماضي بكرم الضيافة، وإصدار جوازات المرور، وغيرها من المساعدات المتوفرة لهم في ذلك الوقت. والأيام دول بين النَّاس؛ إذ كانت اليمن أفضل حالًا من جارتها السلطنة وقتذاك، وكان اليمن السبّاق بالخير والكرم، وهذا ليس بغريب على هذا الشعب العريق.

اليمن السعيد أقدم كيان سياسي في شبه الجزيرة العربية؛ فهو بلد الحضارات العريقة والتاريخ التليد، لكنه عانى عبر تاريخه الطويل من الحروب والفتن التي استنزفت شبابه وثرواته القومية، فلم يشهد هذا البلد العظيم أي استقرار اجتماعي أو ازدهار اقتصادي طوال العقود الماضية؛ بل ألقت الحروب الأهلية والانقلابات العسكرية بظلالها على كامل ترابه عبر العقود في الجنوب والشمال على حدٍ سواء.

وفي الختام.. ندعو من هذا المنبر أهل الحل والعقد في اليمن للجلوس إلى طاولة مُستديرة؛ وذلك للشروع في حوار جاد ومناقشة صادقة لتحقيق مستقبل مشرق لجميع أفراد الشعب بلا استثناء؛ فاليمن بحاجة لكل أبنائه المُخلِصِين لطيِّ صفحة الخلاف، وتصحيح المسار، وبناء شراكة وطنية، ولَمّ الشمل، ومداواة جراح الماضي، والعبور بهذا البلد إلى المستقبل الواعد الذي يسوده العدل والديمقراطية والمساواة بين الجميع.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري