"ممر الهند الشرق الأوسط أوروبا" وبيع الأوهام.. وجهة نظر اقتصادية فيزيائية

حسين العسكري

 

إنّ ممر الهند والشرق الأوسط وأوروبا الذي تدعمه الولايات المُتحدة والذي تمَّ الإعلان عنه خلال قمة مجموعة العشرين الأخيرة في الهند، ليس مجرد وَهْم، لكنه عملية احتيال سياسية يمكن أن تُهدِر وقت وطاقة الهند ودول غرب آسيا وأوروبا.

لا توجد تفاصيل معروضة عن هذا المشروع باستثناء مخطط عام وضحه شفهيًا بعض القادة في مؤتمر صحفي لإنشاء ممر تجاري من الموانئ الهندية إلى موانئ الإمارات العربية المتحدة والسكك الحديدية عبر المملكة العربية السعودية والأردن إلى الموانئ الإسرائيلية على البحر الأبيض المتوسط، ثم مرة أخرى من الموانئ الإسرائيلية إلى الموانئ الأوروبية. هناك العديد من السخافات السائدة في هذا الوصف وفي النقاش الذي أطلقه هذا المشروع عالميًا دون أي فهم للحقائق الاقتصادية الفيزيائية التي قد ينطوي عليها مثل هذا المشروع. إن الادعاء بأنَّ هذا المشروع سيحل محل مبادرة الحزام والطريق الصينية يفتقد للنقطة الأكثر أهمية في ما أطلقه الرئيس الصيني شي جين بينج تحت عنوان "الحزام الاقتصادي لطريق الحرير" في عام 2013. إن "الحزام" الاقتصادي ليس طريقًا تجاريًا، بل "ممرًا للتنمية". إنَّ الافتقار إلى الفهم بين "الخبراء" على المستوى الدولي، بل وحتى بين بعض الخبراء الصينيين، لهذا الفارق الحاسم بين الغرض من بناء البنية الأساسية باعتباره تنمية اقتصادية واجتماعية وليس تجارة، يشكل مشكلة خطيرة.

إذا كان غرض ممر الهند الشرق الأوسط أوروبا هو تسهيل التجارة وشحن البضائع بين الهند وأوروبا، فهذه فكرة مثيرة للسخرية كما سنوضح أدناه، وذلك ببساطة لأن هناك طريقًا مناسبًا للغاية عبر قناة السويس يعمل اليوم. بخلاف ذلك، إذا كان المقصود من هذا الممر هو تعزيز التنمية الاقتصادية والتعاون بين الدول الأعضاء، فيجب عليها الانضمام إلى الصين، لأنَّ الأخيرة منهمكة لسنوات عديدة من خلال مبادرة الحزام والطريق في القيام بذلك على وجه التحديد. ولا يوجد سبب وجيه يدفع أوروبا أو الهند (وهي دولة آسيوية عظيمة، وليست أطلسية، ذات إمكانات هائلة) لعدم التعاون مع الصين التي تعد أكبر شريك اقتصادي تجاري لدول غرب آسيا، المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بالذات.

إنَّ الغرض الواضح من هذه الخطوة الأمريكية والاتحاد الأوروبي هو تعميق الصدع الناجم عن بعض التوترات المتعلقة بقضايا الحدود بين الدولتين الآسيويتين العملاقتين الهند والصين في تكتيك "فرق تسد" المعتاد للإمبراطورية البريطانية.

مستويات عديدة من الغرابة

هناك مستويات مختلفة من الغرابة في هذا الاقتراح. وأكثرها وضوحًا هو أنه في حين أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، اللذان فشلا في تمويل وبناء البنية الأساسية في أراضيهما، يقترحان القيام بذلك في أراضي الغير. لقد ناقشتُ سابقًا السبب وراء كون البدائل التي تقدمها الولايات المتحدة ومجموعة السبع والاتحاد الأوروبي لمبادرة الحزام والطريق محكوم عليها بالفشل من حيث التمويل والتطبيق العملي. والسبب الآخر هو أن الأردن، الذي من المفترض أن يكون عنصرًا رئيسيًا في الجسر البري بين الخليج والبحر الأبيض المتوسط، لم تتم حتى دعوته إلى حفل التوقيع على مذكرة التفاهم لهذا الممر. وحقيقة أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لم يتم حله، وأن المنطقة تشهد اشتباكات مسلحة حادة متكررة، تُظهِر بوضوح أن هناك نقاط سياسية يمكن أن تكسبها الحكومة الإسرائيلية العدوانية أكثر من النقاط الاقتصادية، لأن ممر "الهند الشرق الأوسط أوروبا" سيرمي مظالم الفلسطينيين تحت عجلات القطار.

لكن دعونا نناقش "فيزياء" هذه الادعاءات. إذا كان هدف الممر هو مجرد إنشاء طريق شحن يلتف على قناة السويس المصرية، فسيكون هذا المشروع الأكثر تكلفةً وغير عقلانية من الناحية الاقتصادية المادية. وكانت هناك مناقشة مثيرة للسخرية لكنها أصبحت شائعة في الصحافة الإسرائيلية التي زعمت أن الخاسر الأكبر هنا ستكون قناة السويس ومصر. لنفترض أن إحدى سفن الحاويات الكبيرة جدًا من نوع ما بعد باناماكس، ستجلب البضائع من الهند وتصل إلى ميناء جبل علي في الإمارات العربية المتحدة في طريقها إلى إسرائيل، والبحر الأبيض المتوسط، وأخيرًا أوروبا. يمكن لسفينة مثل هذه أن تحمل ما بين 20000 إلى 25000 حاوية وحدة مكافئة عشرين قدمًا (TEU) أو 10000 حاوية مكافئة أربعين قدمًا (FEU). ويبلغ طول الحاوية المكافئة عشرين قدمًا 6.1 متر. وإذا أردنا مناولة هذه الحاويات الى قطارات بعدد عربات 39 إلى 40 عربة لكل قطار وكل عربة تحمل 2 حاوية نمطية، فسنحتاج إلى 250 قطارًا. وبما أن طول كل قطار حوالي 580 مترًا (العربة الواحدة = 13.7 مترًا × 40 عربة، إضافة إلى قاطرة واحدة بطول 32 مترًا)، فإن سلسلة قطاراتنا ستمتد لمسافة 145 كيلومترًا! تخيل الآن أن 15 سفينة حاويات من هذا النوع إضافة إلى 22 سفينة أحمال سائبة و35 ناقلة نفط و8 سفن حاملة سيارات و13 سفينة من مختلف الأنواع تمر عبر قناة السويس كل يوم!

وادعاء الخبراء الإسرائيليين بأنَّ هذا الممر سوف يدمر الاقتصاد المصري من خلال جعل قناة السويس مُهملة هو تصريح سريالي على أقل تقدير. الآن، علاوة على ذلك، علينا حساب التكلفة (المادية والمالية) لتفريغ الحاويات من السفينة في موانئ دبي إلى القطارات ومن القطارات إلى السفن مرة أخرى في الطرف الآخر في إسرائيل، إضافة إلى دفع رسوم خدمة الميناء في كليهما. أضف إلى ذلك تكلفة بناء حوالي 1500 كيلومتر من خطوط السكك الحديدية وصيانتها. أضف تكلفة شراء القاطرات والعربات، وتشغيل القطارات، وتزويد القطارات بالوقود، وتسوية رسوم العبور والتعرفة عبر حدود 4 دول، وما إلى ذلك.

فهل ذكر أي من المستشارين الاقتصاديين للرئيس الأمريكي جو بايدن أو أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية هذه الحقائق والحسابات؟

من المهم أن نلاحظ أن الشحن بالسكك الحديدية أغلى ثلاث إلى أربع مرات من الشحن البحري، ولكن السرعة قد تُعوِّض بعض الفارق، لكن إذا كانت البضائع المنقولة صغيرة في الوزن والحجم وعالية القيمة، مثل الإلكترونيات، وقطع الغيار والمركبات الكهربائية وبطارياتها. ويعد خط السكك الحديدية السريع بين الصين والاتحاد الأوروبي أسرع طرق النقل وأكثرها كفاءة لمثل هذه البضائع بين آسيا وأوروبا؛ حيث ينتقل من الصين عبر كازاخستان وروسيا وبيلاروسيا إلى الاتحاد الأوروبي في غضون 12 إلى 15 يومًا في المتوسط. لكن الحقيقة هي أنه بدون الدعم الذي تقدمه الدولة الصينية، فإن هذا الطريق لن يكون "فعّالًا من حيث التكلفة" إذا نظرنا فقط إلى الربح المالي لنشاط النقل في حد ذاته. ولكن بسبب الاعتبارات الاقتصادية والاستراتيجية، يتم الحفاظ على هذا الطريق من قبل الحكومة الصينية وجميع الأطراف الأخرى. حتى اندلاع حرب أوكرانيا لم يتمكن من إيقاف هذا الطريق التجاري المهم.

ما هو "ممر التنمية"؟

وبغض النظر عن المناقشات الضحلة حول "حروب الطرق التجارية والموانئ"، فإن ما يجب أن يكون مثيرًا للاهتمام لجميع الاقتصاديين والمحللين وصانعي السياسات هو دراسة تأثير تطوير البنية التحتية على القدرة الإنتاجية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية للدول.

أول مرة تعرفت فيها على مفهوم "ممر التنمية" كان في عام 1996 عندما كان أستاذي الراحل، الاقتصادي والمفكر الأمريكي الكبير ليندون لاروش (1922- 2019) يقدم لنا النصح والارشاد نحن أعضاء فريق من "معهد شيللر"، بينما كنا نقوم بإعداد أول تقرير اقتصادي وعلمي شامل على الإطلاق حول الجسر البري الأوراسي / طريق الحرير الجديد، وهي فكرة يمكن القول دون مبالغة إنها من بنات أفكار لاروش. وكانت الصين تعمل بشكل مستقل على تطوير استراتيجية طريق الحرير الجديد الخاصة بها، ولكن المشاورات بين الخبراء الصينيين ومعهد شيللر كانت مستمرة لسنوات عديدة. نُشر التقرير المصور المكون من 290 صفحة في يناير 1997 تحت عنوان "الجسر البري الأوراسي، طريق الحرير الجديد - قاطرة التنمية الاقتصادية العالمية".

إن فكرة "ممر التنمية" متضمنة في ما طوَّره لاروش باسم "الاقتصاد الفيزيائي"، وهو أسلوب علمي لتقييم التقدم الاقتصادي يعتمد على تأثير الاختراقات العلمية والتكنولوجية الجديدة على إنتاجية المجتمع وتبعا لذلك زيادة ما يسميه لاروش الكثافة السكانية النسبية المحتملة. وهو يعزو هذا الفرع من الاقتصاد إلى الأعمال المتعاقبة للعبقري العالمي جوتفريد فيلهلم لايبنتز (1646- 1716)، وكارل فريدريش غاوس (1777- 1815)، وبرنهارد ريمان (1826- 1866). ويستبعد الاقتصاد الفيزيائي جميع التقييمات اللاعقلانية لدور المال والنقد والتجارة في العملية الاقتصادية، لأنها رغم كونها أدوات سياسية بحتة مفيدة كأدوات لصنع السياسات إلا انها ليست العنصر الحاسم في العمليات الاقتصادية. والعنصر الأساسي في التقدم الاقتصادي هو التقدم الفكري والعلمي والثقافي والطفرات التكنولوجية.

وبالتالي فإن ممر التنمية الحديث كما يراه لاروش عبارة عن حزام من النشاط الاقتصادي يبلغ عرضه 100 إلى 150 كيلومترًا، وفي مركزه تشكل البنية التحتية للنقل والطاقة والمياه والاتصالات الهيكل العظمي والعمود الفقري والجهاز العصبي للاقتصاد. وحول هذه البنى التحتية يتم بناء مراكز حضرية جديدة ومناطق صناعية زراعية. والغرض من البنية التحتية هو تعظيم قيمة الموارد الطبيعية والبشرية لمنطقة ما وربطها بمناطق أخرى على المستوى الوطني والإقليمي وعبر القارات. ومن ثم فإن "التجارة" تعني نقل التكنولوجيا والمواد بين هذه المناطق لتعزيز إنتاجية ونمو بعضها البعض، وذلك باستخدام المزايا النسبية لكل منطقة. وهذا هو نفس المفهوم الذي قدمه الرئيس شي جينبينج باعتباره "الحزام الاقتصادي" لطريق الحرير في عام 2013. وهو نفس المفهوم الذي يوجه التنمية على طول الحزام الاقتصادي لنهر اليانغتسي، والحزام الاقتصادي للخليج الأكبر جنوب الصين، وخط بكين- تيانجين في الصين. ولا يُعد "تعزيز التجارة" الهدف الأساسي لممرات التنمية هذه انما التنمية الاقتصادية هي الهدف الأساسي، مع زيادة التجارة كمنتج ثانوي طبيعي وتحصيل حاصل.

لذلك عندما تسمع عن مبادرات تقوم على حسابات المال والتجارة وتصدير المواد الأولية كهدف أساسي، عليك فورًا الضغط على زر التنبيه. وهذا هو مصدر شكوكي الأساسي بشأن "البدائل" الغربية لمبادرة الحزام والطريق سابقا والآن ممر الهند الشرق الأوسط أوروبا. وبطبيعة الحال، لدي أسباب أخرى ذات طبيعة سياسية للتشكيك في هذه المبادرات لأنها ذات طبيعة جيوسياسية وتهدف في المقام الأول إلى تقويض الصين ومبادرة الحزام والطريق دون أي فائدة لأي طرف.

ممرات التنمية في غرب آسيا

لقد نصح السيد لاروش، وأنا أيضا، في حواراتنا مع قادة دول غرب آسيا والعالم العربي، ببناء هذه الممرات التنموية، وشجعنا على بناء الطاقة النووية من أجل تقليل الاعتماد على تصدير النفط الخام والغاز الطبيعي بأسعار منخفضة وبدلًا من ذلك استخدام هذه المواد الخام كمواد خام صناعية للصناعات البتروكيماوية والكيمياوية التي من شأنها زيادة القيمة المضافة لكل برميل من النفط عشرات المرات. وتتصدر الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر هذا التحول من مُصدِّري المواد الخام إلى دول صناعية في هذه المنطقة. وتؤدي الصين دورًا رئيسيًا في هذه العملية، لكن دولًا أخرى أيضًا مثل كوريا الجنوبية واليابان وألمانيا مدعوون للمساهمة في هذه العملية المربحة للجانبين. وبطبيعة الحال، نصحنا هذه البلدان أيضًا ببناء البنية التحتية للنقل على نطاق واسع للاستفادة من موقعها الجغرافي باعتباره "مفترق طرق القارات والمحيطات".

لقد كان "ممر التنمية" على طول طريق الحرير الجديد ومبادرة الحزام والطريق في جوهر مقترحاتي كممثل لمعهد شيللر والتي قدمتها لدول غرب آسيا كمشاريع إعادة إعمار في مرحلة ما بعد الحرب. قدمنا ​"خطة طائر العنقاء" إلى الحكومة السورية في عام 2016، وخطة "المعجزة السعيدة" إلى الحكومة اليمنية في عام 2018، وممرات التنمية العراقية إلى الحكومة العراقية في نوفمبر 2022. وكما كان لاروش متشككًا في اتفاق أوسلو في عام 1993، واقترح خطة الواحة للتنمية الاقتصادية كأساس للسلام وليس مجرد توقيع اتفاقات سياسية.

بين الواقع والوهم

عندما تقترح الولايات المتحدة مشروعًا مثل هذا أي مشروع "ممر الهند الشرق الأوسط أوروبا" يفترض قادتها أن هذا سوف يملأ مساحة فارغة في المنطقة. نعم في حين أن هناك مجالًا كبيرًا لتحسين الفضاء الاقتصادي في غرب آسيا وأوروبا، إلا إن الصين ومبادرة الحزام والطريق منشغلتان بالفعل في بناء هياكل هذا الفضاء لسنوات.

خذ على سبيل المثال المسار المفترض لممر الهند الشرق الأوسط أوروبا: أولًا: تدير شركة كوسكو الصينية بالفعل ميناء بيريوس في اليونان بعد أن استثمرت فيه بشكل كبير لجعله أحد أهم المحاور البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط. وتقوم الشركات الصينية ببناء خطوط السكك الحديدية إلى صربيا والمجر لتعزيز الاتصال في أوروبا الشرقية والوسطى. وقامت الصين ببناء وتطوير الميناءين الرئيسيين في إسرائيل، ميناء حيفا وميناء أشدود. وتشارك شركة "سي آر آر سي" الصينية بشكل كبير في بناء شبكة الاتحاد للقطارات (الإمارات العربية المتحدة) لكل من قطارات الركاب والشحن، والتي ستتصل أيضًا ببقية دول مجلس التعاون الخليجي في المرحلة المقبلة. وتتفاوض المملكة العربية السعودية والصين على بناء الجسر البري السعودي لربط الجزء الشرقي من المملكة العربية السعودية على الخليج بالساحل الغربي على البحر الأحمر.

من المهم التأكيد هنا على أن شبكات السكك الحديدية الإماراتية والسعودية لم يتم بناؤها في المقام الأول لنقل البضائع بين آسيا وأوروبا، ولكن لربط مواقع تعدين البوكسيت والفوسفات والخامات الأخرى بالمناطق الصناعية المبنية حديثًا. وقامت الصين ببناء واحدة من أكبر المناطق الصناعية في الساحل الغربي السعودي في جازان؛ حيث تعد البتروكيماويات والخدمات اللوجستية النشاط الأساسي فيه. قامت الصين ببناء أول قطار ركاب فائق السرعة للحجاج من جدة إلى مكة. وشاركت الصين في تطوير محطة الحاويات في ميناء خليفة في أبوظبي. وهناك عدد لا يحصى من المشاريع الأخرى التي يمكن تسميتها والتي سوف تتوافق مع مسار الممر الهندي الأوروبي المقترح. ولكن بدلًا من العمل مع الصين، تعمل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالضد من الصين وتتجنبها. إن ذلك لن يحدث أبدًا لأنه مستحيل ماديًا (فيزيائيًا). لقد اتخذت دول المنطقة، وخاصة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، قرارها بالفعل بشأن نوع الشراكة التي ترغب في إقامتها، والشراكة مع الصين هي النموذج.

التوجه شرقا مع البقاء في الغرب

دعونا نتحقق من آخر التطورات في هذا الشأن.

كانت زيارة الرئيس شي جينبينج إلى العاصمة السعودية الرياض في ديسمبر 2022، إحدى أكبر الاختراقات في منطقة غرب آسيا في العقود الأخيرة؛ حيث عقد ثلاث قمم مع القادة السعوديين، وقادة دول مجلس التعاون الخليجي، وقادة جامعة الدول العربية. إن نتائج هذه الزيارة وتطوراتها اللاحقة لها أهمية تاريخية. كان الاتفاق السعودي الإيراني الذي توسطت فيه الصين لتطبيع العلاقات في مارس 2023 بمثابة تغيير في قواعد اللعبة في المنطقة بأكملها. كان انضمام المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر وإيران إلى مجموعة البريكس بمثابة دفعة أخرى للتحول النموذجي الجديد في العالم. ولكننا نركز هنا على المشاريع الملموسة الناتجة عن هذا التطور.

وفي خطابه أمام قادة دول مجلس التعاون الخليجي في الرياض في 10 ديسمبر، أوضح الرئيس شي الإجراءات الاقتصادية والمالية الملموسة التي عرضتها الصين للعمل مع دول مجلس التعاون الخليجي على الفور. يجب أن تكون "النقاط الخمس" موضع اهتمام أي محلل جاد للدراسة. وهي تشمل التجارة طويلة الأجل في النفط والغاز بالعملات المحلية، ومشاريع البنية التحتية التي تمتد إلى الطاقة النووية، واستكشاف الفضاء وتكنولوجيا الفضاء، والاتصالات والذكاء الاصطناعي، والمشاريع الصناعية، ومشاريع البنية التحتية للنقل. وقبل يوم واحد من انعقاد قمة الصين ودول مجلس التعاون الخليجي، توصل الرئيس شي والملك سلمان بن عبد العزيز إلى اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة. وتتوافق هذه الشراكة مع الرؤية السعودية 2030. وعلى الفور، تم توقيع 30 مذكرة تفاهم بين الكيانات الصينية والسعودية. وقد تم تحويل المذكرات الى عقود بقيمة 10 مليارات دولار أمريكي خلال منتدى الأعمال الصيني العربي في المملكة العربية السعودية في يونيو 2023.

وبلغت تجارة الصين مع الدول العربية 450 مليار دولار أمريكي في عام 2022، وتقترب من تجارة الصين مع الاتحاد الأوروبي التي بلغت 650 مليار دولار أمريكي. ومن المتوقع أن تتجاوز تجارة الصين مع العالم العربي الاتحاد الأوروبي في الأعوام المقبلة، حيث سيتسارع التعاون في جميع المجالات ذات الصلة. وكان أحد هذه المؤشرات هو منتدى الأعمال الصيني العربي في يونيو 2023، حيث تم وضع التعاون الاقتصادي الصيني العربي على مسار سريع.

وعلى الشاطئ الشرقي للخليج، توصلت الصين وإيران إلى شراكة استراتيجية شاملة مماثلة تمتد لمدة 25 عامًا، باستخدام آلية «النفط مقابل التكنولوجيا». وتم قبول إيران في منظمة شنغهاي للتعاون كعضو كامل العضوية في العام الماضي، وفي مجموعة البريكس هذا العام. وتحتفظ إيران أيضًا بعلاقات جيدة جدًا مع الهند وروسيا في ذات الوقت، حيث يعمل الآن "ممر" حقيقي جدًا بين الدول الثلاثة تحت عنوان ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب (INSTC). وفي هذه المنطقة، لم يعد هناك مجال للألعاب الأنجلو-أميركية ذات المحصلة الصفرية؛ حيث تبحث الدول عن مصلحتها الخاصة بأسلوب مربح للجانبين يتغلب على مشاعرها الآيديولوجية والقومية.

لماذا الصين شريك موثوق به؟

تُظهر العديد من استطلاعات الرأي التي تجريها مؤسسات غربية مدى شعبية الصين في أعين الشعوب العربية، وخاصة الشباب. وحتى لو وضعنا جانبًا التأثير المروع للحروب التي شنتها الولايات المتحدة وبريطانيا وحلفاؤهما في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي على قلوب وعقول الناس في العالم العربي وغرب آسيا، فإن شعبية الصين تعتمد على مزاياها الخاصة فحسب وليس على مقارنتها بالغرب.

لقد أثبتت الصين أن أي دولة نامية يُمكنها التحول الى دولة صناعية بسرعة والارتقاء في التصنيف الاقتصادي العالمي. لكن ذلك يعتمد على بناء أساس اقتصادي فيزيائي متين، وفي جوهره بنية تحتية حديثة عالية المستوى، وهذا درس مهم للدول النامية الأخرى. أصبحت الصين القوة الرائدة في مجال الهندسة والبناء في العالم. كما أصبحت رائدة في مجالات التكنولوجيا الفائقة مثل الاتصالات وتكنولوجيا الفضاء والروبوتات والصناعات الكيماوية والبتروكيماوية التي تعد جذابة للغاية للدول المنتجة للنفط والغاز في المنطقة. أصبحت الصين موطنًا لسلاسل التوريد الصناعية الأكثر رصانة وكفاءة على هذا الكوكب. وتمتلك الصين ترسانة مالية هائلة توفر من خلالها قروضًا طويلة الأجل ومنخفضة الفائدة. وستظل الصين أكبر مستورد للنفط والغاز من هذه المنطقة وأكثرها استقرارًا في العالم حتى عام 2060 على الأقل، مما يجعلها مشتريًا موثوقًا ومستقرًا. ولدى الصين رؤية طويلة المدى لتنميتها حتى عام 2049؛ مما يجعل الشراكة الاقتصادية معها مشروعًا مستقرًا وطويل الأجل. وتتمتع الصين برؤية ملموسة ومتبادلة المنفعة لعلاقاتها مع المنطقة والعالم من خلال مبادرة الحزام والطريق، ومبادرة التنمية العالمية، ومبادرة الأمن العالمي، ومبادرة الحضارة العالمية.

أما من الناحية السياسية، فقد أظهرت الصين قدرًا كبيرًا من حسن النية والتضامن مع هذه الدول خلال العديد من الأزمات، وخاصة جائحة كورونا. ولم تتدخل الصين قط في الشؤون الداخلية لدول غرب آسيا أو غيرها من الدول. علاوة على ذلك، فإن الصين تحظى في نظر الشعب العربي بالإعجاب بسبب موقفها الثابت والمبدئي تجاه القضية الفلسطينية والمرتكز على تحقيق حقوق الشعب الفلسطيني في السلام من خلال العدالة والالتزام بقرارات الأمم المتحدة.

من المؤكد أن الهند ستحقق نتائج جيدة إذا تعاونت مع الصين وباكستان ودول أخرى في المنطقة لتجنب مخاطر الجغرافيا السياسية البريطانية (جيوبوليتيك). والمجال مفتوح على مصراعيه أمام اقتصاد واعد مثل اقتصاد الهند وتاريخها العريق، لكي تمارس دورًا إيجابيًا في أوراسيا وأفريقيا. غير أن الحقائق المادية والاقتصادية التي يعيشها العالم هي العامل الحاسم هنا، وليست أمنيات السّاسة المنفصلين تمامًا عن الواقع.

*************

نُشر المقال باللغة الإنجليزية عبر:

https://www.brixsweden.org/why-the-india-middle-east-corridor-is-a-fraud-a-physical-economic-argument/

** نائب رئيس معهد الحزام والطريق في السويد

ممثل منطقة غرب آسيا بمعهد شيللر العالمي

تعليق عبر الفيس بوك