ماجد المرهون
كُل إنسان يبحث عن السعادة بطرقه المُباحة والمُعتادة، فمنهم من يجدها في كوب شاي أو قهوة وقطعة حلوى، أو لقاء في وقت مُناسب مع الأهل والأصدقاء أو رحلة خلوية واستكشافية أو في السفر، مع أنَّ كل هذه النشاطات مسبوقةً باستعدادات وتجهيزات لا تخلو من العناء وتركيز ذهني ومجهود جسدي يزداد وينقص حسب نوعية المناسبة لكنها حوافز غرضية تهدف لبلوغ المُبتغى وتحصيل النتيجة النهائية وتتويجها بمشاعر البهجة والمسرة.
وهُناك من تُحفزه النواقل العصبية لنيل ثمرة سعادته بطرق خاصة، وهؤلاء تجاوزوا مراحل السعادة المعهودة إلى تفرعات إضافية نادرة أو غير مُعتادة وليس بالضرورة أن تكون تلك الممارسات متطرفة أو سيئةً شائنة بل استثنائية وربما حسنة زائنة، كما إن من يسعى للسيطرة والتملك متوسلًا القوة والعنف والبطش إنما يبذل تغوله طلبًا في نهاية المطاف للسعادة، ولن تتحق له.
تتعدد مراتبُ السعادة وتتفاوت درجاتها، ونتفاعل مع زيادتها ونتعاطى مع نقصانها بحسب مقتضى الضرورة والظروف، حتى إذا بلغت أدنى درجاتها تتدخل عوامل الصبر المشفوعة ببواعث الأمل ودوافع الجهد والبذل والعمل، وفي مُعظم الأحيان يُفلح الأمر ويحقق النجاح المنشود، ولكن مع الرضوخ للفشل تبدأ مرحلة الانحدار عند الاستسلام إلى ما دون الصفر ثم النكوص إلى دركات الشقاء وهو الجانب المُناقض الذي لن تُجدي معه كل فُرص اقتناص السعادة الطبيعية المألوفة، وإن وجدت فلن تكون إلّا محاولات شكلية غير مجدية وستقود إلى انتكاسات متتالية تودي بصاحبها إلى الاكتئاب ومايتبعه من أحوال سيئة واستحلال للمعصية وتصرفات مُشينة ومعيشة مُزرية.
يصعب تعريف مفهوم السعادة في جوهرها سوى أنها مظهر فرح داخلي يعود على صاحبه بشعور البهجة والطمأنينة ويفضل البقاء في تلك الحالة لأطول فترة ممكنة، إلّا أن الحصيف الكيّس يُدرك أنَّ هنالك أولويات وأسبقيات يجب تفضيلها وهي من الضرورات الدائمة وبإهمالها وتركها أو تأجيلها ستفقد السعادة المؤقتة معناها، وكان ماسبق مجرد مقدمة لتوصيف فهم محفزات السعادة ومحبطاتها وقد يكون معلومًا لدى الكثيرين ولكن ما قد لا يعلمه البعض أن "الدوبامين" والمعروف بهرمون السعادة هو المتحكم بها من خلال بث الحوافز في الخلايا العصبية للمخ، فكل ما يفتعله الإنسان من نشاطات بغرض إسعاد نفسه ماهي إلا نوع من المكافآت الذاتية التي تعزز من تنشيط إفراز نواقل البهجة ولكنها تبقى في نطاق المستويات المعقولة التي لن يضر بعدها عودة نشاط الدوبامين إلى مستواه الطبيعي، إلّا أنَّ الضرر الكامن وراء اختلال محفزات الدوبامين هو الخطر الأكبر والخفي إذا ما تمَّ التلاعب بها بواسطة إغراق النفس بالشهوات والإفراط في الملذات والسعي الدائم وراء بلوغ الحدود القصوى للسعادة بإضافة مؤثرات خارجية كالمخدرات.
إن المُتعاطي لأول جرعة من المخدرات سيشعر ببلوغ معدل غير مسبوق من الابتهاج وهي سعادة لم يبلغها من قبل، وهو بالطبع شعور وهمي نتيجة تحفيز عظيم لإفراز الدوبامين- هرمون السعادة- وتفصله النشوة المؤقتة فصلًا شبه كامل عن الواقع، ويكون بذلك قد أوجد خللًا عصبيًا أصاب به إفراز المحفزات الطبيعية، ولن يجد المتعاطي بعد ذلك سعادته عند تراجع مستوى المخدر وعودة معدلات الدوبامين إلى طبيعتها، فيصاب حينها بخيبة أمل عندما تبدأ حالة القلق بالازدياد تدريجيًا ويشعر بتناقص سريع وحاد للسعادة حتى تصل إلى درجة الصفر، فيباغتها بجُرعة جديدة إن توفرت وإن لم تتوفر سينتقل إلى مرحلة مادون الصفر ويتدرج في التعاسة هبوطًا، حتى إذا وصل إلى الاكتئاب، تقاذفته أفكار الغضب المُفرط التي قد تسوقه للجريمة أو الانتحار.
لا أريد أن أكون سوداويًا جدًا ولكن هذه هي الحقيقة المُبرهَنة ويجب الإحاطة بها علمًا من جوانبها السلبية، ومع ذلك يوجد جانب إيجابي مشرق في حال توفرت إرادة جادة لدى المدمن الذي يعتقد أنه بلغ نقطة اللاعودة؛ حيث إنَّ رغبة الترك تمثل قطع نصف الطريق إلى الخلاص، والنصف الآخر المتبقي هو التعاون المشترك وتكاتف الجهود، والتي تبدأ بالأهل ومدى معرفتهم ومعلوماتهم وطريقة تعاملهم في هذا المنعطف الحساس، وبنجاحهم سيخرجون جميعًا من نفق البؤس التي يقاسونه سرًا. ثم عليهم بالحذر كل الحذر من مخاطر انتكاسة المدمن في مرحلة التعافي وبالتحديد في أول أسبوعين؛ لأنها الفترة التي تساوره فيها كل الذكريات والرغبات الجامحة للاستسلام والعودة للسعادة الزائفة، ولكن بعد تجاوزه بنجاح فترة شهر كامل منذ إقلاعه فإنَّ ما يأتي بعد هذه المرحلة؛ هي خطوات تأهيل نفسي ومعنوي وسيكتشف خلالها عودته إلى طبيعته وهي أشبه بمن استفاق من النوم بعدما رأى كابوسًا مزعجًا.
وجدنا أخيرًا أن محفزات الدوبامين أو ما يعرف بهرمون السعادة، بريء براءة الذئب النبيل من دم الحمل الوديع، ومما ينسب له من اتهام، فهو من بديع صنع الخالق ومقدر بمقاييس ومعايير بالغة الدقة ولا يُخرج تلك المقادير عن ضبطها إلّا ما تسوِّل به النفس لصاحبها وتُزيِّن له لذائذ المسرّات تقبل أخطاء الانحرافات وتعضده بأهلية كسب الموبقات، وإبقائه تحت رحمة السعي المضني لمكافأة نفسه بالسعادة التي تحفزها النواقل العصبية، والحقيقة أن المحفزات الطبيعية كالأكل والشرب وممارسة الهوايات والتكاثر، هي التي تستحث إفراز الدوبامين لنيل الشعور بالسعادة والوصول إلى مبالغ البهجة، وبدونه لانقرضت معظم المخلوقات وانتهت الحياة.