ماجد المرهون
قبل الخَوض في موضوع العنوان، وتصاريفه، وما سيتخلَّله السياقُ اللاحق وتضاعيفه، فإنَّ المقتضى الظرفي يفرضُ نفسه بوجوب الحديث عن التربية؛ إذ إنها مُقدَمة على التعليم؛ فالتربية هي القاعدة التي سيتخذ عليها البِناء مكانته بحسب قوة الأساس ومتانته، وعليه فإن من يُقيم الجذر التربوي لذلك الأساس هو من يلي أمرَ الطفل، وهو في مرحلة أشبه بلبِنةٍ ليِّنة بالِغة النقاء شديدة الصفاء، ومُطاوعة قابلة للتشكيل والتعديل، ومستأمنة بين يدي ولي الأمر الذي سيصنع من ذلك الطفل ما سيكون علية عندما يبلغ أشُده ويكتمل رشده؛ فلينظر هذا المربي الأول أيَّ شأنٍ يشاء: هل يُريده إنسانًا ضعيفًا مهزوزًا منكسرًا لا يملك كلمته ولا أمر نفسه؟ أم يريده قويًّا واثقًا صلبًا وحرًّا في اختياراته وتعبيره؟! ومنعًا للإطالة، فسوف نصرف عن الأساليب التربوية هنا صفحًا، فهي متاحةٌ في مَضانِّها لمن أراد تبيانها، مع الاكتفاء ببعض الإشارات والعبارات.
وجدنا بعض المطالِبين بضرب الصبية الصغار غَرَضًا لجبر الكسور التربوية، وفرضًا لتجسير الهفوات التعليمية، باعتماد العصا كوسيلة ضرورة متوازية مع منافع التربية والتعليم، بصرف النظر عن تخصُّص المعلم ومادته التعليمية.
وقد يستشهدون ببعض الأمثلة على أنفسهم، أو على غيرهم، والتي يعتقدون وثاقتها من حيث حجم الجسد الذي هُم عليه اليوم، ورجاحة عقولهم، وربما قوة شخصياتهم التي لم تُختبر بشكل علمي، وهي استشهاداتٍ تُساق كقرينة إثبات للمثال الناجح أو كدليل دحض فكرة عدم جدوى الضرب، وليس كُل المروجين على مواقع التواصل بمكان يسمح لهم بإطلاق الأحكام والاقتراحات على المنهجية التربوية أو التعليمية باجترار تقليد ما كان سائدًا قديمًا؛ فالمجتمعات تتطوَّر وأساليب التفكير تتغيَّر بتغيُّر الزمان وتبدُّل الظروف والمكان.
ولا أعلم ما هو دور الوصاية التي يحاولون ممارستها على عقول المتلقين باجترار نظرية ضرب الطفل لتأديبه وتعليمه، وهي فكرةٌ لا تقل خشبيةً عن العصا التي يُطالبون بإعادتها ليد المُعلم الذي باتت هيبته مهددةً بدونها، مع أنَّ البون بين الهيبة والخوف بائنٌ جدًّا، ولكن يقع البعض دون قصد في خطأ التفريق بينهما.
إنَّ من يُطالب ببعث العصا إلى يد المعلم سيرتها الأولى، وإحياء ذكريات الضرب في المدارس مع نظم التربية والتعليم اليوم، فكأنَّما يطالب بنظام الكتاتيب والتلقيم والتلقين، والويل لمن لم يحفظ، ثم العار على من أخطأ، وليس له سوى إيقاع أقصى أنواع العقاب بمده وضربه بالعصى على باطن قدميه، وبهذا يُصبح ذلك الطفل قد حقَّق أولى خطواته على طريق الرجولة، فهل يا تُرى ستوصله أقدامه الدامية المتقرحة إلى بيته القريب؟! وسيهنأ بعد ذلك بالعيش كريمًا والنوم ملء جفنيه قريرًا، واللعب البريء مع أقرانه كثيرًا؟! وهل سيحب ذلك الرجل الذي يتلذَّذ بضربه ثم يحترمه ويهابه، أم سيكرهه ويكره رؤيته وسماع صوته؟! هل سيبقى هذا الطفل طفلًا إلى الأبد، أم سيكبر وتُنقش الذكريات في عقله المُتحجِّر؟! وهذا إذا بقي عقله قادرًا على الاستنباط والابتكار، واجتراح التحليلات والفلسفات والنظريات العلمية، عِوَضًا عن إعادةِ ما لُقِّم به عقله المرعوب في طفولته، وتحوُّله إلى نسخة إنسانية نمطية مكررة.
رُبما لا يستنِد مُعظم العامة من الذين يعتقدون بجدوى الضرب والعصا وغيرها من أدوات وآلات كسر الكرامة وإهانة الذات في النهج التربوي والتعليمي على أية دراسات علمية أو معرفية بقدر ما يركنون إلى التجارب الشخصية التي مُورست عليهم أو على غيرهم، ولا يعلمون حجم الضرر الواقع على مخ ذلك الطفل المضروب، وما هي العِلل التي صنعها ونتائجها. لا يوجد طفلٌ غبي منذ الولادة، وقد يُظهر الأطفال الذين تعرَّضوا للضرب استجابةً عصبيةً لاحقًا في بعض الوظائف بسبب التأثير العميق الناتج عن الخوف في الوقت الذي تموت فيه قرابة 400 خلية عصبية مع كل حادثة عقاب بالضرب، وهي من أهم مسببات تناقص العبقرية، وإنْ بدت التأثيرات إيجابية في حينها، إلا أن النتائج لن تُحمد عقباها وستنعكس فيما بعد على المخ، وستُفضي إلى الإهمال والبلادة مع التقدُّم في العمر، وقد تنعكس على السلوك والأفعال بالمقارنةِ مع استخدام أساليب الهدوء واللين وشرح الأخطاء وكيفية تداركها وتجنبها، مع الاستمرار في التربية الإيجابية والتكرار؛ لذلك قيل: "التعليم في الصغر كالنقش على الحجر"، ولكن من أراد استعجال الغايات فعليه بالضرب والتهديد بالعصا، ثم عليه تحمُّل النتائج، أو بالأحرى على ولي الأمر تحملها.
أساليب وطرق العِقاب المبنيَّة على التجارب، وعلى الدراسات الذهنية والنفسية التي لا تؤثر على النمو العصبي الطبيعي لعقل الطفل، كثيرة، وإن من يلجأ إلى الحل السريع بالعقوبات الجسدية والكلمات النابية إنما يُفرغ شحنة غضبه على ذلك الصغير المسكين، وسيهدم في داخله شيئًا لا يشعُر به أحد في مراحل نشأته الطفولية، وسينتج مع استمرار هذه المُمارسة فردٌ في المجتمع ضعيف الشخصية غير قادر على القيادة، وبالإمكان السيطرة عليه وعلى قراره بسهولة، ويصبح شخصًا عاميًّا مُنساقًا ومُشجِّعًا على الضرب والعقاب بالعصا...وغيرها.
قد يقُول قائلٌ إنَّ ضرب الطفل ورد في السُنَّة النبوية، نعم، وهو إيراد مُخصَّص فقط في شأن الصلاة، ولكن بعد إعطاء مُهلة طويلة تمتد لـ3 سنوات، ومنذ عمر السادسة يبدأ فيها الأمر، ويعمل على مبدأ اللين والاستمرار إلى سن العاشرة، كما أنَّ للضرب أسسًا وقواعد في هذه الحالة الخاصة ليست العصا من ضمنها، ولنا في رسول الله أسوة حسنة؛ إذ لم يضرب إنسانًا قط لا صغير ولا كبير، بل كان يعتمد منهجية التعليم الإيجابي، وبما أنَّ الإنسان من حيث هو مخلوق قادر على التكيُّف وبناء نفسه، فقد يتمكَّن من تَعرَّض لعقاب الضرب في صغره من القيام بدور إعادة البناء النفسي، لكنها عملية استثنائية لا تتسنى للكثير، ولا تتأتى لمعظم من تعرضوا للعقوبات القاسية والتعنيف الدائم.