سعيدة بنت أحمد البرعمية
كنتُ قد كتبتُ منذ أكثر من عام مقالًا بعنوان "الهولوكوست العربي"، وكان ذلك قبل السابع من أكتوبر بعشرة أشهر، تدور الفكرة العامة للمقال حول استنكاري لما صرّحت به دولة عربية من عزمها إدراج دراسة الهولوكست في المدراس، لما رأته من أهمية في معرفة الأجيال لهذه الكارثة الإنسانية! فاستنكرتُ بدوري هذا التوجه؛ لإيماني بأنّ هناك هولوكوستًا عربيا أوْلى بهذا الأمر؛ فعدتُ "للرّخصة" وهي فكرة ثانوية في ذلك المقال لتكون الفكرة العامة لهذا المقال بناء على ما يحدث.
هناك فكرة تدور حول تحسين النسل البشري لطبيب نفساني ألماني الجنسية، بهدف الحدّ من المعاناة الإنسانية اسمه ألفريد هوج، ومن أجل إيصال فكرته وتعميمها تعاون مع الكاتب كارل بايندنك لتأليف كتاب "الرخصة للقضاء على الأحياء الذين لا يستحقون الحياة" عام 1920.
سمّى ألفريد هوج هذا النوع من القتل "بالقتل الرحيم"، وهو الحل الذي أوجده للأفراد الذين يعانون من الأمراض المستعصى علاجها ويُكلّف الدولة هدرا ماليا دون جدوى، وكانت هذه الفكرة الباب الذي فتحته الحرب النازية للقضاء على اليهود، بحكم أنهم المرض الذي أصيبت به ألمانيا ويجب مكافحته؛ فهم بحسب فكرة الطبيب "أحياء لا يستحقون الحياة".
الرّخصة.. كلمة لطيفة تهذّب الفكر وتوحي بأنّ المرّخص صاحب سلطة رحيمة مدركة للموقف ومتطلعة وهادفة في الوقت ذاته، والمسترخص بحاجة ماسة لهذه الرخصة، والأهم مشروعية القتل وتقبّلها كحل يمكن اللجوء إليه وبالتالي سقوط الإدانة، وهذا ما أحدث الترويض الفكري لاستباحة المحرمات وسلب الأراضي والمقدسات؛ لأنها ببساطة من منظور هذه الفكرة بيد أحياء لا يستحقون الحياة عليها، وبما أنّه يوجد من يشرّع للفكرة ويُمكّنها، فما المانع من الاستمرار في المزيد من القتل؟!!
لقد خلقت فكرة الهولوكوست الغربي هولوكوستا عربيا آخر، بدأ منذ 1948 واستمرّ بشكل أو بآخر صاعدا هابطا حتى وصل ذروته بعد السابع من أكتوبر كما يشهد العالم اليوم، وبناء على فكرة الطبيب كانت الرخصة التي شرّعها بلفور والتي بموجبها شهدت فلسطين على مدار أكثر من 70 عاما مشروعية القتل، لأن في فلسطين من وجهة نظر المشرعين أناسا لا يستحقون الحياة عليها وهناك من هو أحق بهذا الاستحقاق أكثر منهم؛ فانفتحت دفّة باب الهولوكوست العربي بمصراعيه على الشعب الفلسطيني الذي لا يزال يعاني، وظلّت المقاومة وحدها تحاول إغلاقه.
إنْ كان النازيون قد رأوا في مرحلة ما، بأنّ اليهود هم المرض الذي أصيبت به ألمانيا؛ فما الموت الذي أصيبت به فلسطين إذن؟
أنا على يقين بأنّ الموت الذي أصيبت به فلسطين على مرّ السنين هو "لعنة القتل الرحيم" على يد اليهود، بدءا من فكرة اعتملت في رأس طبيب بقلبٍ مِخبريّ ومعطف أبيض جميل، ويدان طائلتان، مختبئا بذلك بين أحرف كلمة طبيب!
أتساءل: إن كان أول من تخلى عن إنسانيته طبيب، فعلى من يمكن أنْ نعوّل في استردادها؟
الطبيب لولا استعانته بالكاتب لما وجدت فكرته حاضنا، فقد استخدم الكاتب براعته وأحكم سلطة القلم لبناء الفكرة، وهذا ما حدث ويحدث في فلسطين، الموت المنقضّ كلّ دقيقة على الأبرياء مُرخّص بشكل فاعل من قِبل السلطات المتحكمة بالعالم؛ لذلك شاهدنا على متن سيارات الإغاثة القادمة لغزة من الدول المجاورة، الأكفان البيضاء وعلب غذاء منتهية الصلاحية، بدلا من الدواء والماء والغذاء؛ شعرتُ حينها برسالة الموت المبطّنة إلى هذا الشعب الحيّ.
اليوم ونحن نقف بكلّ ما أوتينا من قسوة، على رفات هذه المحرقة نتابع الأخبار العاجلة، أخشى أن نكون قد أدمنّا المشهد واستبدلناه بالأفلام البولوسية وأفلام الحربيين العالميتين الأولى والثانية؛ فالمشاهد البطولية التي تصنعها المقاومة من النقطة صفر لم تدع مجالا لأيّ إبداع أوشجاعة، أخشى أنّ يجعلنا مشهد الدم بصريين أكثر ممّا نحن عليه من غفلة البصيرة ومتابعة الأحداث دون تأثر أو تأثير، مع العلم أنّ الثأر للأوطان إحدى سماتنا في سجلاّت التاريخ، قبل أن نرضخ لألعوبة السلام ونكثر مشاهدة الأفلام، وتراجع المفهوم من الثأر إلى التأثر؛ لهذا نحن ندين أكثر ممّا نهين!
هكذا كان أمر الرخصة وما نتج عنه؛ وفي المقابل رأينا طلبة الجامعات يخرجون عن صمتهم منددين بالمشهد دون رخصة؛ فالحرّية لا تتطلب الرخصة، ذكّرني احتجاج الطلبة برواية "حديث الجنود" لأيمن العتوم؛ فالقاسم المشترك بينهما هو الصراع الإنساني والتحديات الاجتماعية والسياسية؛ فالرواية تكشف عن العديد من الجوانب الإنسانية والنفسية والقهر والظلم والخيانة التي تواجهها الشعوب في ظل الاستبداد؛ بالرغم من أنّ حدث الرواية في دولة واحدة إلاّ أنّ مآسي الشعوب متماهية.
لا شك أنّ الوقفة الطلابية المعادية للمشهد هي الأكثر تأثيرا من بين جميع الوقفات العالمية؛ كون وقوف هذه الفئة المهتمة بالعلم والبناء والتكنلوجيا مستبعدا بهذه الصلابة والعزيمة ولأن نظرة الأجيال السابقة لها مهمشة، لقد كسر وقوفهم القاعدة واتضّح أنهم يحملون فكرا مختلفا، وهذا أمر مقلق لحكوماتهم؛ فلا صراع كصراع الفكر بين الأجيال؛ خاصة في عقر دار واحدة.
هؤلاء الطلبة تعتبرهم حكوماتهم الركيزة للمستقبل الذي خططته لهم وفق رؤيتها وأطماعها، وعليهم السير على نهجها، ولكن يبدو لي أنّ موقف الطلبة يكشف عن مستقبل الغرب القادم أو هكذا آمل، مستقبل تقوده أجيال مبصرة، يخرجون من قيود الاستبداد رافعين راية الحرية والإنسانية؛ ففكر هذه الفئة بمثابة الفأس الهادم للأيديولوجية الغربية؛ فالحرب الصهيونية الأخيرة المدعومة بقوى عالمية على غزّة كشفت لهم ما عليه بلدانهم من السياسة الاستبدادية والمعادية لحرية واستقلال الإنسان أينما كان، اتضح أنّ بلدانهم تقتات على جماجم الشعوب، وتعمل على اختلاق الأسباب لمشروعية الحروب، وبتكميم أفواههم ذاب جليد الديمقراطية وسقط تمثال الحرية.
ما زلتُ أُؤمن بفكر الأجيال؛ إلاّ أن ثمّة سؤالا يؤرق تفكيري، هل سيستمر فكر أحدهم - وأعني الطلبة المحتجين- بهذه الحرية والفكر المستقل عندما يصل إلى السلطة يوما ما، أم يدخل في أذيال الرّخصة ويصلب جناح الحرّية؟!!!