مصدر المعرفة في علوم الطبيعة بين النص والتجربة (1)

 

 

أ. د. حيدر أحمد اللواتي *

 

يُشكِّل الحوارُ التاريخيُّ الذي دار بين جاليليو وبيلارمين منعطفا مهمًّا في تاريخ علوم الطبيعة بشكل خاص؛ لأنَّ هذا الحوار تجاوز الخلاف العلمي الذي كان حول دوران الأرض وحركتها الذي كان يقول به جاليليو، أو سكونها وثباتها كما كان يرى ذلك بيلارمين، إلى خلاف معرفي أساسي حول مصدر المعرفة الذي يجب علينا أن نستقِي منه معرفتنا بالظواهر الكونية، هل هو الكتاب المقدَّس أم التجربة والملاحظة؟ أم يمكننا الاعتماد على كليهما؟ وإذا كان بالإمكان الاعتماد على كليهما، فمن يتقدَّم على الآخر في حال الخلاف؟ هل يقدَّم النص على التجربة؟ أم التجربة تُقدَّم على النص؟

وقد ظلَّ هذا الخلاف محلَّ شد وجذب في أوروبا المسيحية لردحٍ من الزمن، وبعدها انتصر جاليليو وغدت التجربة والملاحظة هي السبيل الأوحد للكشف عن الطبيعة.

لكن الملاحظ أن هذا الخلاف لم يكن بيِّنًا في حضارتنا الإسلامية، ولربما يكون السر في ذلك، أن النموذج الأوروبي المسيحي كان قائما على التفاضل بين كتاب الطبيعة والوحي، وكما كان قائما على التنازع بين المعرفة العلمية والمعرفة الدينية؛ فأحدهما لابد أن يزيح الآخر وينتصر عليه. أما في حضارتنا الإسلامية، فلم تكن علاقة المعرفة الدينية والعلمية علاقة نزاع قط، بل هي علاقة تكامل وتدافع بين كتاب الطبيعة والقرآن الكريم. ومن هنا، نُلاحظ -ومن خلال تتبُّع كتب التفسير القديمة والحديثة- تغيُّرا واضحا في تفسير النص القرآني ليُوائم المعطيات العلمية المسلَّم بها في عصر كتابة التفسير، وقد أوردنا مثاليْن سابقين في مقالٍ سابقٍ نشرته في جريدة الرؤية بعنوان "تجارب حاسمة"، والمثالان المذكوران كانا حول كروية الأرض وحركتها، وكيف تغير تفسير النص بناء على المعطيات العلمية، ويُمكن الرجوع لهذا المقال لمزيد من التفاصيل.

وفي هذه العجالة، سنتناول مثالين في علم الأحياء؛ أولهما: هو في تفسير قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".

فالآية هنا كما يرى المفسِّرون توضِّح اقتصار علم ما في الأرحام على الله عز وجل، بينما نجد اليوم أن العلم يُمكنه أن يكشف عن جنس الجنين، بل ويمكنه الكشف عن حالته الصحية وما إذا كان سليما أو به تشوهات خلقية، وكما نرى فإنَّ ظاهر الآية يُخالف ما توصل إليه العلم الحديث.

وعندما نعود لكتب التفاسير القديمة، نجد أنها تكاد تجمع على أنَّ أحد أهم مصاديق قوله تعالى: "ويعلم ما في الأرحام" هو معرفة جنس الجنين، وأن ذلك من الغيب الذي اختصَّ الله به نفسه، يقول الطبري (ت:٣١٠ هـ،٩٢٣م) في تفسيره "وَيَعْلَمُ ما فِي الأرْحامِ": فلا يعلم أحد ما فِي الأرحام، أذكر أو أنثى، أحمر أو أسود، أو ما هو.

وورد في كتاب "الخصال" المنسوب إلى الشيخ الصدوق (ت:٣٨١هـ، ٩٩١م) عن الإمام الصادق -عليه السلام- قوله: " قال لي أبي: ألا أخبرك بخمسة لم يطلع الله عليها أحدا من خلقه؟"، قلت: بلى، قال: "إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت، إن الله عليم خبير".

وللفخر الرازي (ت:٦٠٦هـ، ١٢٠٩م تقريبًا) كلام يُشابهه، فيقول: "يقول بعض المفسرين إن الله تعالى نفى علم أمور خمسة بهذه الآية عن غيره وهو كذلك".

ويورد القرطبي (ت:٦٧١ هـ، ١٢٧٣ م) رواية عن ابن عباس: قال ابن عباس: هذه الخمسة لا يعلمها إلا الله تعالى، ولا يعلمها ملك مُقرَّب ولا نبي مرسل؛ فمن ادَّعى أنه يعلم شيئا من هذه فقد كفر بالقرآن".

ونجد ابن كثير المتوفَّى في القرن الثامن الهجري يذهب إلى نفس الرأي، فيقول: "هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها؛ فلا يعلمها أحد إلا بعد إعلامه تعالى بها.. وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه [الله] تعالى سواه، ولكن إذا أمر بكونه ذكرا أو أنثى، أو شقيا أو سعيدا، علَّم الملائكة الموكلون بذلك، ومن شاء الله من خلقه...".

كما يُورد الطباطبائي (ت:١٤٠٢هـ، ١٩٨١م) في "تفسير الميزان": "وقد عد سبحانه أمورا ثلاثة مما تعلق به علمه؛ وهي: العلم بالساعة وهو مما استأثر الله علمه لنفسه لا يعلمه إلا هو ويدل على القصر قوله: "إن الله عنده علم الساعة"، وتنزيل الغيث، وعلم ما في الأرحام، ويختصان به تعالى إلا أن يُعلِمه غيره".

وقد انتبه عددٌ من العلماء اليوم لهذا الأمر، وأنَّ ظاهر الآية يتنافى مع ما توصل إليه العلم الحديث، بل وحتى بعض الروايات الواردة، يقول السيد كاظم الحائري في كتابه "أصول الدين"، وذلك عند حديثه عن علم الله، ما نصُّه: "إلّا أنّ المستشعر من بعض الروايات السابقة أن الاطلاع على حقيقة الجنين في الرحم كالاطلاع على وقت القيامة، لا يمكن أن يتحقّق لأحد وليس أمراً يمكن كشفه بالحس، فحاله حال الساعة التي لا يطلع عليها أحد ولو كان نبيًّا مرسلاً، كما دلت عليه الآية المباركة: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا"، وكذلك قوله تعالى: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون"، فإذا كان الأمر هكذا فيرد الاستفسار عن أنّه كيف يقال: إنّ العلم بحقيقة ما في الأرحام مخصوص بالله تعالى، مع أنّ العلم الحديث قد كشف النقاب عن حقيقة ما في الأرحام من ذكر أو اُنثى بالحسّ؟!

والجواب: أنَّه وبناءً على هذا الاحتمال، فيجب أن تحمل الآية على معنى معرفة حقيقة ما في الرحم ليس من ناحية الذكورة والاُنوثة فحسب، بل ومن ناحية صفاته الجميلة أو الرذيلة وسعادته وشقائه، وما إلى ذلك، وهذا ما لا يمكن كشفه إلّا بالعلم بالغيب".

وللحديث بقية...،

 

* كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس