تحقيق: ناصر أبوعون
إنّ الاشتغال على تحقيق مخطوطة "كشف الستار عن حالة ظفار" وغيرها من المخطوطات عملٌ يقتضي إيضاح المنهج العلميّ وآليات ووسائل التحقيق وفنيّاته، وتحديد أدواته، وطرائق الاشتغال، مع الأخذ في الاعتبار الابتداع بالكشف عن الجديد، والاتباع باقتفاء أثر وخرائط ومناهج المحققّين السابقين الأولين والمتأخرين على درجة واحدة من السواء في آنٍ، والقبض على القاسم المشترك بين المدارس الثلاث المعتبرة في علم التحقيق، والتوفيق بين قواعد الدراية وعلم الرواية على شرط القدماء، ووصلها بتطبيقات المستشرقين، وسبكها في اجتهادات الباحثين الجُدُد؛ للخروج بمنهج تكامليّ رصين.
وإذا كان لكل شيخ طريقته، ولكل علمٍ مناهجه، ولكل باحث مداخله؛ فإنّ الفرع الذي ينتمي إليه المخطوط، وسمات عصره، وأسلوب مؤلفه يفرض على المحقق انتهاج طرائق خاصة وإن راعى التوفيق بين سائر المدارس العربية والغربية، ومن ثَمَّ لا يجوز تحت أي ضغوطات، أو تأثيرات أو توهمّات يظنها محقق المخطوط أو ناقله أن يُعمِل فكره أو قلمه في تغيير متنها بالحذف أو الإضافة أو تعمّد التصحيف، فـ"الاجتهاد في جعل النص المحقق ونشره مطابقا لحقيقته، كما وصفه صاحبه ومؤلفه من حيث الخط واللفظ والمعنى" [أمالي مصطفى جواد 119/أصول تحقيق التراث 45،علم التحقيق للمخطوطات العربية72/ مناهج تحقيق المخطوطات لعباس هاني الجراخ 27]؛ فالمحققُ أمينٌ على المخطوط الأسير بين يديه، ومُبلّغ للرسالة التي بين دفتيه، والنص في عهدته خطًّا ولفظًّا ولا عُذرَ له في إسقاط بعض فقراته أو إزالة مفردةٍ من كلماته، أو إضافة ما يعنّ له في متن المخطوطة بعد رقنه مخالفًا للأصل الذي ظهرت عليه النسخة الأصليّة المصوّرة، "واختصار بعض الألفاظ أمر غير مرغوب لدى علماء الإسلام، لأنها قد تُقرأ بشكل غير سوي" [مقدمة د.محمد حمدي البكري لكتاب أستاذه برجشتراسر أصول نقد النصوص ونشر الكتب، ص: 12] واتفق على ذلك الأقدمون والمستشرقون ولا سبيل لمخالفة مقاصدهم؛ ومُطَالَبٌ بـ"الامتناع عن تغيير النص وإسقاط شيء منه إلا بعد أن ينبِّه القاريء إلى ذلك" [أصول نقد النصوص ونشر الكتب، برجشتراسر، ص: 12].
وإن كان لابد للمُحقق الحاذق من الإشارة تلميحًا أو تصريحًا لبعض المطارحات، أو الرؤى إثبات مشاكلة في وجهات النظر بين فكر مؤلف المخطوط أو معارضته أو تثير المجادلة فيما ذهب إليه من رأي أو تعمّق الخلاف بين أهل العلم؛ فإن سائر مناهج التحقيق اتفقت جلّها على ضرورة إفراد مساحة واسعة للتعليقات في الهوامش والحواشي؛ وهي "ضرورة لازمة؛ فهي تأتي لخدمة النص توضيحًا وتنويرا" [في نقد التحقيق ص:31]، وهي العُمدة في جلاء النصوص، والكاشفة عما أُشكل، والمُبيّنة لما داخلَه الشك، والمُزيلة لما خالطه اللبس والإبهام، والمعينة على الإيضاح، والوسيلة الناجعة لتيسير الإفهام؛ "إذ تُبين ما غمض منه أو أُزيل عن جهته، وتصحح المحرّف والمصحّف وتيسره للقاريء وتجزل عائدته، وتكشف عن جهد المحقق وخبرته وثقافته"[ مناهج تحقيق المخطوطات، ص: 34].
وبناءً على ما سبق فقد سعينا؛ - وأن ليس للإنسان إلا ما سعى – إلى إلزام أنفسنا أمام الله بالسير على خطى محددة تزيل الغموض عما شاكله الوهم، وغطى وجه حقيقته الظن، بإثبات ما أثبته المؤلّف (الشيخ العلامة عيسي بن صالح بن عامر الطائيّ) في كتابه "كشف السِّتار عن حالة ظفار"، وبخط الناسخ (عيسى بن عبدالله البشريّ) في المتن، والتمييز بينه وبين الشروح والتعليقات في الهوامش، واتباع منهج السابقين في نقل النص (كما وصل إلينا) مع الإشارة بعبارة (كذا وجدته)، ثم التنويه بما لحقه من تصحيف أو تحريف، وإثبات صوابية الخطأ إنْ وُجِدَ, وهذا ما تقتضيه "الأمانة في أداء النص صحيحا، دون تزيّد أو نقصان؛ فالمحقق بمثابة رواية للكتاب، الذي يرويه بطريقة[الوجادة]" [علوم الحديث لابن الصلاح، ص:16، و في منهج تحقيق المخطوطات ص: 27-31، منهج تحقيق المخطوطات، إياد الطباع، ص:14]
ولامندوحة عن الوصول إلى ما تقتضيه المصلحة من أداء الأمانة على وجه الإتقان قدر الاستطاعة بقراءة حروف المتن على جهتين اثنتين متكاملتين؛ من طريق (الوصف)و(العلامات)،وإعمال العقل والاتصال بالمشتغلين بفن التحقيق، والتواصل مع العارفين بالخطوط، والمستمكنين من قاموس العادات والأعراف والتقاليد العُمانية المتوارثة في (ظفار)، والإشارة في الهوامش لما وصل إليه الاجتهاد مع الأخذ في الاعتبار بـ"اتّهام الفهم بالتقصير قبل اتِّهام النصِّ بالتَّحريف"، و"التنبّه إلى سهو أو وهم المؤلف وأغلاط الناسخ والتنبيه إليها، وتصحيح الرواية، وترك ما وقع في الأصل على ما هو عليه مع التضبيب عليه، وبيان الصواب خارجا في الحاشية فإن ذلك أجمع للمصلحة وأنفى للمفسدة" [إعمالا لرأي القاضي عياض في كتابه (الإلماع) ص: 185-186 نقلا عن الطرابيشي، ص:13].
أمّا عن محتوى المخطوط؛ فهو ينتمي من حيث جنسه الفنيّ إلى (أدب الرحلات)، وهو في منبته تأريخٌ وتوصيفٌ لإحدى الرحلات الخريفية "المعتادة" للسلطان تيمور بن فيصل إلى ولاية (ظفار)، وقد عرّج فيها الشيخ عيسى بن صالح بن عامر الطائي - وكان يومئذ يشغل منصب قاضي قضاة مسقط، وأحد المقربين والفاعلين في المشهد السياسيّ العُمانيّ – فضلا عن رصده تشكُّلات موقع ظفار الجغرافي في خارطة لفظية مُحكمة الوصف، وما رشح عنها من علاقات انثربولوجية، خلّقتها البيئة الطبيعية، وفيها من الأحداث التي تنتنمي نسبيّا إلى عالم (الميثولوجيا)، وضمّت سردًا شائقًا للأنشطة الاجتماعية والاقتصادية والإشارة إلى الأعراف والتقاليد ومدى ارتباطها بالدين فضلا عن الحديث عن التقسيمات الديموغرافية للمجتمع الظفاريّ خلال النصف الأول من العقد الثاني من القرن العشرين، وتحديدا في الـ الرابع والعشرين من شعبان عام 1341 هجرية الموافق يوم الحادي عشر من أبريل عام 1923م.
ومجمل صفحات المخطوط تقارب الـ(90) صفحة، وانتهى الشيخ عيسى بن صالح من تأليفه بعد مضي سنة قمرية كاملة على عودته من ظفار في ليلة الجمعة يوم الثالث عشر من رمضان عام 1342 هجرية الموافق يوم الثامن عشر من أبريل عام 1924 للميلاد، وفي ختامه أثبت قصيدة شعرية أجمل فيها وصف رحلته مقرونة بعدد من "التخميسات الشعرية" التي ساجل فيها الشعراء في مجالس السلطان فيصل وعلى ظهر السفينة التي أقلتهم إلى ظفار، و"الحائية لابن النحاس" كانت من بديع تخميساته الت يقول فيها: [(ما أضا البرق أو هبّت صبا//موهنًا إلا ودمعي انسكبا)(ذاكرا أوقات أنس في قبا//يانداماي وأيام الصبا)(هل لنا رجعٌ وهل للعمر فسحُ)].
فضلا عن ذلك فإن مخطوط "كشف الستار عن حالة ظفار" ضم بين دفتيه (أنطولوجيا) للشخصيات العُمانية والأجنبية التي كانت فاعلة في المشهد السياسيّ والثقافيّ في مطلع القرن العشرين، فضلا عن (معجم جغرافيّ) مصغِّر للقُرى والبلدان الظفاريّة، و(مسرد) بالعادات والتقاليد والأعراف التي تميز ظفار عن غيرها من الولايات العمانية.