أشجار سعود الطائي.. توظيف للتَّناص والفانتازيا والواقع

 

 

ناصر أبوعون

في هذه القصة يضفِّر الكاتب سعود بن حمد الطائي حلقات متوالية من المشاهد في العمود الفِقَرِيّ للقصة، موظّفًا "الحبكة القصصية"، مُعتمدا على ديناميكية "المنولوج/الحوار مع الذات"، وشحن توترات الأحداث المتتابعة في رفع درجات التشويق والإثارة التي أسهم "الديالوج/الحوار مع الآخر" للوصول بها إلى "الذروة"؛ حيث تتشابك وتتصارع "المصالح والمخاطر"، وتحتدم درجة التوتر أكثر فأكثر حينما يُدخل جميع شخصيات القصة في "متاهة" يتصادم فيها الصراع النفسي داخل الشخصية الرئيسة مع الأخطار الخارجية التي تقترب خطوة إثر خطوة لتلتهم الحُلم الذي بناه البطل.

واللافت للنظر في قصة "عندما تتحرّك الأشجار" توظيف الطائيّ للعديد من التَّقنيات الفنيّة والأسلوبيّة في بناء معمار قصته القصيرة؛ حيث اعتمد في تكثيف وإيصال فكرتها على إيقاظ ميكانزمات «الإسقاط النفسي» (Psychological projection) داخل عقول القراء، وتقف وراء هذه الميكانزمات رغبة عارمة في إعادة بناء وتموضع الأحداث داخل قلب الواقع الذي نعيشه، وربّما أراد الكاتب أن يدق جرس الإنذار فوق رأس كل مسؤول أو موظّف أو صاحب قرار في شركة أو مؤسسة وحتى دولة محذِّرا إيّاه من نزغات الشيطان وتطلعات النفس الأمّارة بالسوء، والانسياق وراء البطانة الفاسدة وأصحاب المصالح.

أمَّا التقنية الفنيّة الثانية التي اتكأ عليها الطائيّ في بعث فكرته من تحت رماد الاعتياد المنمّط والمقولب والمؤطَّر؛ تمثَّلت في استدعائه لظاهرة "الغرائبيّة" وتوظيفه لـ"الواقعية السحريّة"، مستعينا بـ"التدهيش"، وتضفيرها في وصفة إبداعية تجمع في تركيبها بين الواقع المتصادم بالخيال المريض، ومرارة الحقيقة الممزوجة بوهم الفانتازيا، والمعجزات الخارقة للعادات، المتحدة مع غرائب الطبيعة.

ثم تأتِي تقنية "التَّناص" لتستحوذ على النِّسبة الأكبر من "طبوغرافيا" النصّ؛ فضلا عن كونها جاءت قصديّة ومتعمّدة من الكاتب، لدورها الفاعل في تجسيد العديد من الدوال، وارتكازها على جدلية التذكُّر التي تولَّدت داخل القصة، حاملة جينات وآثار النصوص السابقة عليه؛ سواء مقدَّسة أو بشرية تتناسل في فضائها سلسلة من الرموز والإيحاءات وفق رؤية "بول زمتور"، وليست مُتسربة خلسةً داخل متن القصة، استنادًا للخلفية التراثيّة والبناء الثقافيّ الذي نشأ في حاضنته الكاتب.

ويتبدَّى دور "التَّناص المنبثق من السيميولوجيا" في واجهة البناء الفني لقصة "عندما تتحرّك الأشجار" بأشكال متعددة تُسهم في تغذية الأحداث؛ بل كان "التَّناص" هو مصدر الطاقة المتجددة داخل معمار القصة وتتولّد عنه سلسلة من الانزياحات اللغوية رفعت درجات التوتر، ومن ثَمَّ سيعثر القارئ المحترف على العديد من "النصوص المتداخلة والمتفاعلة" داخل نسيج القصة، تقوده وتصاحبه من مشهد إلى آخر مضفورةً في صراع تتصاعد حدّته ويزداد قوةَ مع ارتفاع درجة حرارة الأحداث، وأهم هذه الأنواع:

 

أولا: التَّناص العسكري التكتيكي

إنَّ العلم الخالص، والاختراعات المبتكرة، تُصبح واقعا في حياتنا تدريجيا عبر العديد من المراحل؛ التي تنشأ عادةً في المرحلة الأولى من "الخيال"، ثم تنتقل بنا إلى درجة "التَّوهم" الذي يقود إلى ابتداع الجديد المغاير والمختلف، ثم يذهب بنا التَّوهم إلى الواقع العيني والمُشَاهَد بصريًّا، على نحو ما نقرأه عند خط النهاية في قصة "عندما تتحرك الأشجار"؛ حيث عايشنا الحركة الثورية وهي تتخلّق في صورة "انتفاضة"، تنطلق من قلبها الجماهير عاصفةً متخفيَّة تحت أغصان الأشجار، هادرةً أصواتها، نازلةً من أعالي الجبال باتجاه المدينة، وتتدحرج كرة ثلج تكبُر وتنتفخ، ثم  تنفجر في ثورة عارمة لاستعادة حقوقها السليبة. وفي هذا المشهد، يستعير سعود الطائي تقنية "التَّخفّي" التي ابتدعها مواطنان بريطانيان؛ هما: الرسّام سالومون جوزيف والنَّحات سالومون ليون آندروود، اللذان اخترعا "برج مراقبة عسكري على هيئة شجرة" مغطّى بلحاء أشجار الصفصاف الطبيعية، وهي تقنية دخلت الخدمة العسكرية في الجيشين البريطاني ثم الفرنسيّ إبان الحربين العالمية الأولى والثانية، ثم انتقلت إلى ألمانيا في صور متعددة.

 

ثانيا: التناص العلمي

إذن، لم تكن فكرة سعود الطائي خيالًا خالصًا ولا فانتازيا محلّقة؛ بل إحدى ثمرات العلم وتطبيقاتها. وإلى اليوم لا يزال المرشدون السياحيون في قلب غابات الأمازون المطيرة يتحدثون عنها للزائرين، ويحكون لهم بشغف عن "أشجار النخيل التي تتحرّك من أماكنها" (Socratea exorrhiza)؛ بل تمشي سنويًّا داخل الغابة مسافة عشرين مترا على عشرة أرجل تُشبه في بنيانها التشريحيّ قوائم الطيور، تتنقّل عليها من مواقعها التي نبتت فيها إلى مسافات بعيدة ومجاورة. وحول هذه الظاهرة الغرائبية قدّم عالما الأنثروبولوجيا جون إتش بودلي وفولي سي بينسون في ثمانينيات القرن العشرين بحثًا تفصيليا عن حياة هذا النخيل، وتوصَّلا إلى نتائج علمية مذهلة أكدت أن أشجار النخيل تتحرك واقعيا على عشرة جذور تشبه الأرجل تتخلّق من جذوعها المرتفعة باحثةً عن ضوء الشمس.

 

ثالثا: التَّناص مع الحديث النبوي

وقبل توصّلِ العلم إلى هذه المبتكرات، وإقرارها بهذه الروايات المحكية على ألسنة الرحّالة والمسافرين التائقين إلى المغامرات؛ كانت السيرة النبوية ومن قبلها القرآن خير شاهد على العديد من المعجزات والحقائق التي لا يزال العقل يقف أمامها حائرا ومطأطئا رأسه خشوعا وتبجيلا؛ رصدها وجمعها المُحدِّثون في كتب السير، وأرخّ لها الدارسون في شروح معجزات الأنبياء من لدن آدم عليه السلام وصولا إلى خاتم الأنبياء سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد  روى ابن عمر  رضي الله عنهما قال: "كنَّا معَ رسولِ اللهِ في سفرٍ، فأقبلَ أعرابيٌّ، فلمَّا دنا مِنهُ قال لهُ رسولُ اللهِ: أينَ تريدُ؟ قال: إلى أهلي. قال: هلْ لكَ في خيرٍ؟ قال: وما هوَ؟ قال: تشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ. قال: ومَنْ يشهدُ على ما تقولُ؟ قال: هذهِ السَلَمَةُ (الشجرة). فدعاها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهيَ بشاطئِ الوادِي فأقبلَتْ تخدُّ الأرضَ خدًا، حتى قامتْ بينَ يديْهِ، فاستشهدَها ثلاثًا فشهِدَتْ ثلاثًا أنهُ كما قال، ثمَّ رجعَتْ إلى منبتِها، ورجعَ الأعرابيُّ إلى قومِهِ وقال: إنِ اتبعوني أتيتُكَ بِهمْ وإلا رجعْتُ مكثتُ معكَ"؛أخرجه الدارميّ (16) واللفظ له، وابن حبان (6505)، والطبرانيّ (12/432) (13582)، أحاديث معلة ظاهرها الصحة، 13387- دار الآثار- صنعاء الطبعة: الثانية سنة الطبع: 1421هـ.

 

رابعًا: التَّناص مع القرآن الكريم

دائمًا ما ينفخ النصُّ القرآنيُّ من قداسته وبلاغته ودلالاته في المنتج البشريِّ روحًا تجعله يتنفس ويحيا، بل يبقى موصولا بحبله المتين، ولا يتأتى هذا النسق تلقائيا من لدن المشتغلين بالكتابة الإبداعية إلا ثلة من المرابطين على ثغوره، والمتمسكين بتعاليمه، والقابضين على جمر أسلوبه قراءةُ وترتيلا وبحثا وتفسيرا.

وفي قصة "عندما تتحرَّك الأشجار" تتنزّل لغة القرآن في بهوها، فتمنحها حياةً، ونورا تستضيء به، وتضفي عليها بعضا من بلاغتها، وترسو بها على شطآن مجازاتها ودلالات ألفاظها؛ على نحو ما قرأناه فيها من إشارات حملتها لغة الكاتب: كقوله: "بحيرة زرقاء جميلة تَسُرُّ الناظرين"، وهي مشتقة من قوله تعالى: "قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ" (البقرة:69)، وتعبيره: "أسرَّ لهم النجوى"، وهي مقتطعة من قول ربنا "لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَآ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ" (الأنبياء:3)، وفي منحى آخر يستعير الكاتب الآية 24 كاملة من سورة الإسراء،:"وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ"، ومن التناصّ كذلك قول الطائي على لسان شخصيات القصة: "لا تخاف دركا ولا تخشى"، وهو مأخوذٌ أيضا من قول ربِّنا في الآية 77 من سورة طه: "ولَقَدْ أوْحَيْنا إلى مُوسى أنْ أسْرِ بِعِبادِي فاضْرِبْ لَهم طَرِيقًا في البَحْرِ يَبَسًا لا تَخافُ دَرَكًا ولا تَخْشى".

وفي الأخير.. يُمكننا القول: إنّ القاصَّ سعود بن حمد الطائيّ، يحاول جاهدا عبر منتوجه الإبداعيّ المتنوّع بين المقالة والقصة القصيرة تقديم وجبة ثقافية غنيّة بالمشاعر الدينية الفيّاضة، المُشتقة من القاموس القرآنيّ والسيرة النبويّة ليس ادعاءً لـ"تديين الإبداع" وإلباسه ثوب القداسة، وإنما انتماءً عُمانيًّا وعربيًّا وإسلاميًّا لدستور قِيميّ مازال ثرًا ومعطاءً ومتدفقًا بالنزعة الإنسانية والحرية المسؤولة، والمؤتلف الإنسانيّ الذي لا يحصره مكان ولا يضيق به زمان.