البيئة الأكاديمية ومهارات سوق العمل

 

 

أ. د. حيدر أحمد اللواتي *

غَدَتْ مهاراتُ سوق العمل -المُتمثلة في: القدرة على حل التحديات، والتفكير خارج الصندوق، والتفكير الناقد، والقدرة على تحمل ضغوط العمل المختلفة- من أهم المهارات التي تسعى لها الكثير من الجامعات لغرسها في مخرجاتها، إضافة للمعرفة العلمية والعملية التي تحتاج لها التخصُّصات المختلفة. وبصورة مختصرة، فإنَّ المتوقَّع من المخرجات الجامعية هو: اكتساب المهارات والمعرفة النظرية والعملية، والقدرة على مواجهة مختلف التحديات التي يتعرَّض لها الإنسان في حياته، وهو مطلب أساسي ومهم، ولكنَّ الملاحظ أنَّ بعض الجامعات تقع في تناقض بين محاولات تنمية وصقل هذه المهارات لدى طلابها من خلال المقررات الدراسية، وبين خلق بيئة أكاديمية مُعَرْقِلَة لتنمية وصقل هذه المهارات!

والمقصُود من البيئة الأكاديمية المُعَرْقِلة لتنمية المهارات التي تحتاجها سوق العمل؛ هو: توفير بيئة تعطل القدرة على التفكير في اتخاذ القرارات المرتبطة بحياة الطالب الجامعية، بل وقد تمنعه من اتخاذ بعض القرارات المهمة بمفرده، وفي هكذا بيئة فإنَّ محاولة صقل الطالب وتزويده بالمهارات المختلفة التي ذكرناها آنفا يكاد ينحصر في المقررات الدراسية المختلفة، ويحتاج لمجهود مضاعف؛ فما يتمُّ تعليمه في المقرر الدراسي لا يقوم الطالب بتنفيذه وتجربته في حياته الجامعية، فهذه الجامعات تبني هذه المهارات من خلال مقرراتها الدراسية ومن ثم تعطلها من خلال نظمها الأكاديمية!

وتوفير البيئة الأكاديمية المناسبة من أسهل وأيسر الطرق لكسب عدد من المهارات التي نسعى لغرسها في مخرجاتنا التعليمية؛ فمهارات القدرة على حل التحديات والتفكير الناقد يُمكن أن يكسبها الطالب من خلال النظام الأكاديمي نفسه، فالنظم الأكاديمية تتطلب ذكاء ومهارة، ولا تعتمد فقط على المعرفة العلمية لإنهاء الدراسة الأكاديمية في الزمن المحدد والتفوُّق فيها، كما أنها تعدُّ نظمًا جديدة لم يتعود عليها الطالب في دراسته ما قبل الجامعية؛ لذا فالبيئة الأكاديمية المناسبة تتمثَّل في توفير المعلومات حول النظام التعليمي الجديد بصورة واضحة من خلال مواقع المؤسسة الأكاديمية، ومن خلال توفير الإرشاد الأكاديمي المتزن، والذي يتمثل في إبلاغ الطالب بوجود مرشد أكاديمي يمكنه الرجوع له لأخذ المشورة والاستيضاح متى ما تعذَّر عليه فهم بعض الأمور المرتبطة بالنظام الأكاديمي، لكنَّ عددًا من الجامعات اليوم، تَضخَّم الإرشاد الأكاديمي فيها بصورة مبالغة، وغدَا المرشدُ الأكاديميُّ يتحمل أعباء جسام؛ فمثلا يتحمل المسؤولية عند تراجع مستوى الطالب، بل إنَّ بعض الجامعات تطلب من المرشد الأكاديمي التدخُّل في التحقق من صحة اختيار الطالب  للمواد المختلفة في بداية الفصل الدراسي؛ بحيث يتم فيها الاتفاق مع الطالب على المواد التي عليه أن يدرسها، وعليه أن ينتبه ويتابع الطلبة الذين يواجهون بعض الصعوبات الأكاديمية بصورة دائمة ومستمرة.

وهذا النوع من الإرشاد الأكاديمي المكثف هو في واقعه واحدٌ من الأمور التي تقف عائقًا أمام كسب الطالب مهارات التفكير وحل المشكلات وتحمل المسؤولية، فبدل أن يتحمل الطالب مسؤولية قراراته ويفكر فيها مليًّا -وهو عندما يقوم بذلك ينمِّي في نفسه هذه المهارات- فإنَّ هذه النظم على عكس ذلك توفِّر له الوسائل والأدوات التي يعتمد عليها ويتهرب بها من مسؤولياته.

... إنَّ تضخم مفهوم الإرشاد الأكاديمي له آثار سلبية على شخصية الطالب؛ إذ يجعله يفقد الثقة في قدراته الذاتية على اتخاذ القرارات الصحيحة، ويُوحي له بأن عليه أن يعتمد على الآخرين الذين يمتلكون خبرة ودراية أكثر منه.

لذا؛ علينا مراجعة الدور المُنَاط بالمرشد الأكاديمي؛ فالفكرة الأساسية التي يقوم عليها الإرشاد الأكاديمي هي تقديم المشورة الأكاديمية الصحيحة متى ما أراد الطالب ذلك، ولا يجب أن يتجاوز الإرشاد الأكاديمي هذه الحدود، وعلينا أن نلتفت إلى أن مرحلة ما قبل الدراسة الجامعية تختلف اختلافا جذريا عن المرحلة الجامعية، وواحدة من أهم الاختلافات هي: الحرية التي يتمتع فيها الطالب باتخاذه للقرارات المرتبطة بدراسته واختيار مقرراته الدراسية وطريقة تعامله وفهمه للنظام الأكاديمي، وهذه الحرية تعني تحمُّله مسؤولية قراراته؛ وبذلك ننمِّي في نفسه روح المسؤولية وتبعات الحرية.

وقد يرى البعضُ أنَّ الإرشاد الأكاديمي المكثف يمنح الطالب وقتا أكبر للتركيز في دراسته وفهم المقررات التعليمية والتفوق فيها، وقد يكون ذلك صحيحًا فيما إذا كان هدفنا منحصرًا في اكتساب المعرفة العلمية، أما إذا كان من أهداف العملية التعليمية اكتساب مهارات سوق العمل أيضا بجانب المعرفة العلمية، فإنَّ تضخُّم الإرشاد الأكاديمي سيضرُّ بالعملية التعليمية؛ فمن أهم مسؤوليات الجامعات هو توفير البيئة المناسبة التي تحاكي الواقع الخارجي، وتدرب الطالب على مواجهة التحديات في حياته العملية المستقبلية؛ وذلك من خلال مواجهته للتحديات في حياته الأكاديمية، ولا يُمكن أن تقتصر التحديات على ما يدرسه الطالب في قاعات المحاضرات وفي المنهج الأكاديمي؛ فالتجربة الجامعية بمجموعها هي التي تُصقِل وتنمِّي المهارات التي يحتاجها الطالب في سوق العمل، ولا تقتصر  تنمية وصقل هذه المهارات عبر المقررات الدراسية والمناهج الموضوعة والأنشطة الطالبية، بل تلعب قدرة الطالب على فهم النُّظم الأكاديمية والتعامل معها بذكاء دورًا محوريًّا في تنمية هذه المهارات وصقلها.

لقد كان العرب قديمًا يُرسلون أبناءهم إلى البادية، لأنهم كانوا يظنون بأن حياة الحضر مُرفَّهة، لن تشد عود أبنائهم، ولن تنمِّي وتصقل المهارات التي سيحتاجون لها في المستقبل، وهذا ما سيحدث مع خريجي الجامعات التي تُضخِّم الإرشاد الأكاديمي، فغَدَا حضريًّا بعد أن كان شبيهًا بالبادية.

 

* كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس