الإبحار دون وعي.. تجديف بلا وصول

 

د. قاسم بن محمد الصالحي

 

سلطنة عمان شأنها شأن البلدان العربية والإسلامية الأخرى، يشهد وعيها التاريخي نقاشًا متناميًا في زمن الفوضى، وما تنتجه في تغيّر وعيها الجَمْعي، في ضوء الأحداث والتحولات التي تشهدها المجتمعات اقتصاديًا وسياسيًا، ويحتدّ الحديث، حين تحضر الفوضى الخلاقة كعنصر محدد لبنية التفكير لدى الأفراد، أو كمؤشر لاختلاف العقليات واطّراد درجات الوعي التاريخي والإدراك الجمعي مع تعاقب الأجيال، فضلًا عن عوامل صنع السلوك الاجتماعي وفق معادلة التأثير والتأثر، يتقاطع ذلك تمامًا مع الوعي التاريخي باعتباره صورة عن الحياة داخل المجتمع، وباعتباره أيضًا كتلة من القيم والأفكار والعادات التي تعلَّموها وساهموا في خلقها بشكل أو بآخر ثم نقلوها من جيل إلى جيل، عبر سلسلة سوسيوثقافية وسلوكية متواترة.

اليوم، يُطرحُ سؤال كبير عن الوعي التاريخي في زمن الشعار الواسع الذي ينادي به القائمون على شركات الإنتاج وأصحاب الإمبراطوريات الإعلامية، هو "حرية" قائمة على إظهار الفوضى الخلاقة، ووسائل الإعلام هذه هي أداوت صناعة مواقف واتجاهات منحازة مؤدلجة، باسم الحرية يسعى لفرض أجندته، حيث تنهار الأسوار تحت مطالب حرية التعبير ودعم الحريات، رافق هذا الإنهيار انفلات السيطرة على وسائل الاعلام، وأصبح كل شيء متاحًا للعرض، والمعروض الأكثر طلبًا هو كل ما يؤدي إلى التبشير لمشروع اجتماعي جديد، ففي الوقت الذي تتجه الشعوب إلى معالجة الواقع المر وصيانة أوطانها من اجتياحات الأفكار الجديدة، والحفاظ على سلامة أراضي أوطانها ووحدتها، تعمل أدوات الفوضى بعيدًا عن الأعين، لإحداث تغيير جذري في البنية الأساسية للمجتمعات، والوعي التاريخي، بتغيير نمط التفكير، وصرف انتباه الأذهان والعقول عن الحراك والمبادرات، وتشكيل أرضية خصبة لقبول الفكرة في المجتمعات، بالترغيب أو الترهيب أو القوة الناعمة المتمثلة بالأفلام والألعاب المناصرة لتلك الفكرة، كآلية للتلقين، وإخضاع تلك المجتمعات للقبول بها من حيث لم يشعروا.

من هنا تظهر الأهمية التي يحظى بها الوعي التاريخي في علاقته بالمواطن، بحيث إنه عند الأزمات يصبح الوعي الوطني الاجتماعي مساهمًا بامتياز في العمل على تأهيل الذات وامتلاك حقائق العصر ومتغيراته، ليبني علاقة وطيدة بين الوطن والمواطنين، بين المجتمع والقيادة، بين أفراد المجتمع بعضهم البعض ليصبح الاعتماد على الذات مصدرا للوجود؛ لأن الحد من الأزمات يكون بانصهار الوعي في بوتقة واحدة، ألّا وهي بوتقة الوطن برمته لأن الأزمات عادة غير مرتبطة فقط بمسؤولية من يحكم، لكنها مسؤولية جميع المنظومات والشرائح في المجتمعات سواء كانت سببًا مباشرًا أو كانت مجرد موقف سلبي وانسحابي.

وفي الآونة الأخيرة من زمن الفوضى يبدو أن الأمر قد خرج عن حدود السمت؛ بل وتجاوز حدود المعقول، وعلى أفراد المجتمع العماني أن يحكموا الربط بين الحاضر والماضي، وبين الحاضر والمستقبل، والتعامل مع عالم الفوضى المسماة بالخلاقة في حدود السمت العماني، كما جاء في خطاب حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- أثناء افتتاح دورة مجلس عمان.

وتكمن أهمية الوعي الفردي في أنه يشكل أول سلم لحركة المجتمع نحو الحضارة، فالفرد ليس كائناً مستقلاً بذاته بل هو كائن اجتماعي يتشكل وعيه من خلال البيئة المحيطة به،  البيئة التي ترتبط بمستواه الاجتماعي، وحين ينحو الأفراد إلى التعبير عن سلوكياتهم في كل مناحي الحياة تعبيرا إيجابيا فإنهم بهذا يكونون قد حملوا هم الوعي، وسعوا إلى نشره ونجحوا في مقاصدهم.

لذلك، كلما كان العقل المجتمعي بحالة إدراك وعلى تواصل مباشر مع محيطه الخارجي، استطاع أن يملأ الذاكرة الوطنية، وأن يحصّن الهوية والشخصية الوطنية إلى قلعة منيعة، قادرة على رفع التحديات، لأن الوعي التاريخي هو ركيزة من ركائز تقدم اي مجتمع، وتطوره، بل وله دوره الكبير والرئيس في استقرار المجتمع والنهوض به، كما يشكل خطوة مهمة في تطوير الذات وخلق الإنسان المبدع المثقف المتفهم.

كما يمثل الإعلام عنصرًا مؤثرًا في حياة المجتمعات باعتباره الناشر والمروج الأساسي للفكر والثقافة، ويساهم بفاعليته في عملية تشكيل الوعي الاجتماعي للأفراد إلى جانب الأسرة والمؤسسات التعليمية والمؤسسات المدنية، إضافة إلى ذلك أن الإعلام باعتباره مؤسسة اجتماعية مهمة في المجتمعات البشرية يحمل مضامين اقتصادية وسياسية وأيديولوجية إن لم تكن لها القدرة على ترسيخ ثقافة المجتمع وهويته، فإنها تؤدي إلى تزييف العقل وإفساد العقول.

التاريخ يُبنى على مراحل متعاقبة، تولد أحداثاً تتبعها مواقف بقدر ذاك الحدث، وبالتالي تستذكر أحداث تلك الحقب التاريخية لنقيس عليها فظاعة فوضى عصرنا الحالي، لنعي الكيفية التي تم بها بناء الهوية الثقافية للمجتمع العماني من ناحية القيم الموضوعية، والقيمية، عبر الحقب التاريخية المختلفة، لبيان تدرج الفهم العقلي والتعايش الضميري الذي يحول الذاكرة  التاريخية "الخاملة" إلى إرادة واعية للهوية العمانية، بهدف رسم الخريطة الحضارية لعمان التي تصون ماضيها وتضيء حاضرها، وتحدد استراتيجيات مستقبلها؛ حيث إنه من خلال الوعي التاريخي ينشأ الفعل المجذر تاريخيا، أي صناعة المستقبل.

ونجد أن الطابع المزدوج الذي يجعل جزءًا كبيرًا من أرض عُمان جبالًا عالية صنو للاستقلال، ومن عُمان جبال بحرية انفتاحًا على التأثيرات الخارجية، يفسر لنا كون عُمان دعامة لبناء سياسي من أقوى التكوينات السياسية وأقدمها في العالم ومن أكثرها أصالة. وخصائص سمت المجتمع العماني، هي عناصر فطرية غريزية وراثية وثابتة نسبيًا صاغتها وأثبتتها عوامل البيئة العمانية، ولعل طبيعة أرض عُمان وأسلوب العيش الذي تفرضه بيئتها ينعكس على تكوين طبائع العماني؛ فالبيئة تؤثر تاريخيًا لأنَّ جغرافية عُمان حثت العمانيين منذ القدم على التحرك نحو الآفاق الرحبة، إذا كان الأمر كذلك فأين يقف العقل العُماني اليوم من مجمل التحولات التي يعيشها المجتمع؟ وهل تمسك بوعيه التاريخي أم حضر بصيغ جديدة غير مألوفة؟ وهل تطورت فيه البنيات التحليلية للظواهر أم أنَّ الوعي بما يجري لا يتعدى حاجز الوعي اللحظي التفاعلي غير المؤثِّر؟ وهل نحن أمام حس نقدي حقيقي يتنامى في الواقع مع اتساع دائرة الفوضى، في ظل النطاق التفاعلي الضخم الذي تضمنه شبكات التواصل المزدحمة، أم أنّ الأمر برمّته جزء من تداعيات حالة الضجيج والصدمة الحضارية التي تحدث عنها علماء الإنسانيات، والناجمة أصلًا عن عاصفة الإعلام الجديد والوسائط الرقمية التي قلبت الطاولة على المرئي والمقروء والمسموع دفعة واحدة.

تعليق عبر الفيس بوك