الحبرُ الثائر

 

سُمية بنت سامِي المفرجية **

أتساءل عمَّا يُمكن أن تفعلهُ الحروفُ للقضية، فكلماتنا التي نهتفُ بها ليلَ نهار لا هي حررتِ الأقصى، ولا هي أهدت المعيشة الكريمةَ للفلسطينيين، وما بينَ الأمرينِ الأمرَّينِ رقصنا بغفلةٍ على أشلاءِ من رحلوا بتجاهلنا غيرِ المتعمدِ والمُتعمدِ أحيانًا لمأساتهم، فكيفَ نُريدُ أن نملأ الكأسَ ماءً إن كانت يدنا الأخرى ستريقه؟ 

ولعلَّ هذا الرأيَ النزقَ تبدَّلَ؛ بل اندثرَ، بعدَ السابع من أكتوبر الماضي الحاضر، فبعدهُ أيقنتُ أنَّ هيمنةَ الكلمةِ أقوى من سُلطة السلاح، ونحنُ لسنا مجردَ عينينِ تسبحانِ في مقاطعِ أولئكَ الأبطالِ الثوارِ الذين يدافعونَ عنِ الأقصى بكلِّ ما أوتوا من قوةٍ وضعف، بل يمكنُ لأصابعنا أن تثورَ أيضا.

الحرفُ قاتلٌ، وإلّا لما اغتيلَ غسان كنفاني، ولما أُلغي تكريم الروائية الفلسطينية عدنية شبلي في معرض فرانكفورت في ألمانيا، وقد صرَّحَ رئيس المعرض أنَّ المعرضَ يهدف إلى جعلِ الأصواتِ الإسرائيلية مرئِية بشكل خاص! وبعدَ إتمامي قراءة رواية "اللون أرجواني" للروائية العالمية آليس ووكر، وجدتُ مكتوبًا في سيرتها الذاتية التي على ظهرِ الرواية أنها ناشطة اجتماعية، وروائية، ومناصِرة للقضية الفلسطينية، وتعجبتُ من إدراجِ مناصرتها القضية في سيرتها، وبعدَ استقراء وبحث تبيَّنتُ أنها رفضت ترجمة روايتها للعبرية؛ بسببِ ما وصفتهُ بالتميييزِ العنصريِ ضدَّ الفلسطينيين، كما اتهمتها القنصلية الإسرائيلية بالتحريض!

للكلماتِ الثائرة قدرةٌ على اختراقِ القضبانِ والتسللِ من شقوقِ الزنزانة المظلمة الرَّطبة، وخيرُ ما يمثلُ هذا الوصف كلماتُ المجاهدِ الأسيرِ عبد الله البرغوثي المحكومِ عليهِ بالمؤبدِ سبعةً وستينِ مرة، فروايتهُ أميرُ الظلِّ خاصة وكتبهُ عامة تشرحُ الغضبَ، والجهاد، والأملَ الذي يسكن قلبَ الفلسطينيِ الحر، فجهادهُ حينَ كان طليقا تمثلَ في تَعَلُّمهِ صنعِ الأسلحةِ والمتفجرات، وحينَ عُزلَ في السجنِ الانفرادي جاهدَ بقلمهِ، وألَّفَ جملةً من الكتبِ التي توصفُ بأنها مؤثرة ولا يملها القارئ، ونحنُ بمجردِ إنهاءِ قراءتنا لأعمالهِ الصادقة والتعرفِ على حياتهِ ستُشحذُ همتنا حتى تكونَ حادة كالسكين، وستدبُّ في أجسادنا رعشةٌ يتلوها عزمٌ على حملِ القضيةِ من السطورِ إلى الصدور، وسيكونُ جهاد البرغوثي حاضرا في كلِّ آنٍ نحملهُ في حقائبنا أينما ارتحلنا.

والسجنُ كريمٌ لا يكتفي بتقديمِ برغوثيٍ واحد، فقد يحدثُ أن تتنفسَ الكلماتُ الحرية وتباعُ وتشترى وتعتلي منصات التكريم وصاحبها حبيس! فقبل عدةِ أسابيع تأهلت رواية الأسير باسم خندقجي "قناع بلونِ السماءِ" للقائمةِ القصيرةِ للجائزةِ العالميةِ للرواية العربية (البوكر)، فوصفتهُ إسرائيل بـ"الإرهابي"، ومُنعت الرواية من دخولِ الأراضي الفلسطينية، كما تسعى دولة الشرِ للنيلِ منهُ ومن عزيمتهِ في إنتاجِ الأدبِ داخل سجونها.

وأستطيعُ القولَ إنَّ كلماته التي استعذبها الأحرار كانت صفعةً قاسية أوجعت المتخاذلين، والأمثلةٌ كثيرة، ولكن حسبي من القلادةِ ما أحاطَ بالعنق، ولا أظنُ أنَّ الشابَ العربي الذي قرأ وكتبَ في أدب المقاومة سيستطيعُ استساغةَ نصٍ تخضبتْ حروفهُ بالتطبيع.

لم تكن "حلل يا دويري" مجرد عبارةٍ عابرة؛ بل هي صرخة استنفارٍ لكلِّ من يستطيعُ نقلَ القضيةِ من الهامشِ للمتنِ، وجعلها حاضرةً على الدوامِ، فتحليلُ اللواء فايز واستبشارهُ إبانَ كلِّ عملية كفيلة بإيقاظِ حواسنا، والتفاعلِ مع كلِّ مقطعٍ يحوي مثلثًا أحمرا مقلوبا، وحبرهُ الذي يحلل بهِ ويدون التفاصيل تجاوزَ استوديو الجزيرة ليشاركَ المرابطينَ الجهاد.

المؤسفِ أنَّ آلافَ الكلماتِ لن ترمم قطعة أرضٍ في غزة، ولكن يمكنُها أن تكونَ حاضرةً في ساحة الجهاد، تَشدُّ من أزرِ المقاومينَ، إن صدقت النيَّة، فكلمة قد تُحركُ جيشًا، وأخرى تُخمد حربًا، كلمة يقولها حرٌ شريف تشفعُ لهُ عندَ الله ويكونُ من الأبرار، وأخرى يكتبها مُطبِّعٌ ستورثهُ الذل والعار، وفي فلسطين لا وجودَ للمنطقةِ الرمادية في رأيك، فإما أن تكون معهم أو معهم.

للحبرِ قوة توازي قوة السلاح وقد تفوقها، فالكيانُ بقُبَّتهِ الحديديةِ وجيشهِ الذي يزعم أنهُ لا يقهر لن يستطيعَ منعَ الكلماتِ الثاثرةِ من التناسلِ في الأفواهِ الصادقة، وفرضُ القيود ما هو إلا إعلانٌ صريحٌ بالهزيمةِ، فحينَ تُغلقُ القنواتُ المناصرة للقضيةِ من تطبيق يوتيوب، وتُحذفُ التغريداتُ من منصةِ "إكس"، وتُحجبُ المنشورات من "انستجرام"، فهذا كلهُ يُعدُّ بشارات نصر، وأنَّ للحبرِ أثرًا؛ فهم يحاولونَ تغييبَ الماضي وبترَ المستقبل، كما إنهم يسعون جاهدينَ في التلاعبِ بالكلماتِ، ولكن يستطيعُ العالمُ الذي شاهدَ وشَهِدَ وسمعَ وتألمَ أن يسدَّ الفجوة، وأن يزأر في وجهِ الظلم؛ فالشهيدُ ليس قتيلًا، والمقاومُ ليس بإرهابي، وقرية الشيخ مؤنس لن تكون تل أبيب، والديمقراطية بريئة من مزاعمِ الدولةِ الغاصبة.

حينَ نكتبُ نلفظُ أنفاسنا الأخيرة، وقد ينبحُ البعض، ويُطبِّلُ آخرون، حينَ نكتُب ونحنُ نكتوي بسياطِ المنفى- فالقلبُ موطِنهُ الأقصى- فإنَّ أقلامنا تكونُ معبأة بالدمعِ لا الحبر، لذا فالكلماتُ تنتحب، وتتعثر الجُمَل قبل وصولها لبياضِ الورق، ولكن المهمَ أن نكتب؛ فالهزيمةُ الحقيقية هي أن نخرجَ من هذهِ الحرب ونحنُ على رأيٍ يتيمٍ لا يتبدل، يطلبونَ منكَ أن تتكتَّم حتى يجتثكَ الحزنُ ويخنقكَ الألم، فأنتَ بالنسبةِ لهم غير مهم، ووجودكَ تماما يُشبهُ العدم، يصادرون فكرك، ويمحون ذكرك، لذا تكتم حتى تصلَ بسلامٍ لقبرك.

حسنًا.. لا تتكتَّم، واستمر في النشر، وامنح قلمكَ فرصة أن يخطَّ ما يحلو لهُ دفاعًا عن موروثكَ الديني، وستتحول بعدها بطريقةٍ ما من شخصٍ عادي إلى شخصيةٍ غيرِ عادية، واجعلْ علاقتكَ بالحروفِ علاقةَ النارِ بالحطب، ولا تتعب من إشعالِ الفتيل كلما رأيتَ شعلةَ النشرِ تخفت، وحينَ تشعرْ أنهُ لا حلَّ ولا مفرَّ تذكرِ الحبر، والزمْ ثغرك ولا تتجاوزه، فحبركَ سيكونُ شاهدًا على اعتذارك بحرقة كُلَّ مساءٍ.

** طالبة بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس

تعليق عبر الفيس بوك