نحو مستقبل مالي مستدام

 

 

بلقيس بنت سعود المخمرية

 

 

رؤية "عُمان 2040" وأهمية التمويل الذاتي للمؤسسات الحكومية

في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية المُتزايدة التي تواجهها المؤسسات الحكومية في مختلف القطاعات، يبرز البحث عن استراتيجيات مالية مستدامة كأولوية قصوى لضمان استمرارية وفعالية هذه المؤسسات. هذه التحديات تحفز المؤسسات على استكشاف سبل مُبتكرة لتعزيز قدرتها التمويلية، بعيدًا عن الاعتماد الكلي على الميزانية العامة للدولة، وهنا يظهر مفهوم التمويل الذاتي كحل أمثل يتيح لها تلبية احتياجاتها المالية وتحسين أدائها بشكل عام.

من هذا المنطلق، تأتي رؤية "عُمان 2040" لتوجه نظر المؤسسات الحكومية نحو مستقبل اقتصادي متطور ومتنوع ومستدام، واضعة التمويل الذاتي في صميم استراتيجياتها لنيل الاستدامة المالية وتعزيز التنويع الاقتصادي؛ حيث تؤكد الرؤية أهمية دور القطاع الخاص وأهمية تنويع مصادر الدخل وجذب الاستثمارات كعناصر حيوية للنمو الاقتصادي، مركزة على التنويع الاقتصادي والاستدامة المالية كأهداف رئيسية. وهذا النهج لا يعزز القدرة على تحقيق التكامل بين السياسات المالية والنقدية والاقتصادية فحسب؛ بل يدعم أيضًا بشكل مباشر نمو الاقتصاد المستدام، موضحًا كيف يمكن للتمويل الذاتي أن يكون جسرًا يربط بين الحاضر المليء بالتحديات ومستقبل مالي واقتصادي مزدهر.

وفقًا للرؤية التاريخية لمفهوم التمويل الذاتي، يظهر أن هذا النوع من أنواع التمويل قد تطور في سياق تاريخي محدد، حيث ازدادت أهميته في الفترة الحالية. وتتجلى دوافع التمويل الذاتي بوضوح في سياق اقتصاديات السوق؛ حيث يتعين على المؤسسات البحث عن وسائل لتعزيز موقعها في وجه التحديات المتزايدة للمنافسة. ويعكس هذا التحدي ضرورة تحقيق التوازن بين الطلب المتزايد على الخدمات الحكومية وتحديات نقص الموارد المالية. وضمن هذا الإطار، يتعين على المؤسسات الحكومية اتخاذ إجراءات فعّالة لتعزيز التمويل الذاتي وتحسين قدرتها على تحقيق أهدافها المستدامة؛ حيث يتطلب ذلك التركيز على استغلال الفرص المتاحة، وتعزيز التكامل والشراكات، ورفع مستوى الأداء لضمان تحقيق التنمية المستدامة وتلبية تطلعات المجتمع.

ووضع العديد من الكتاب والباحثين عدة تعريفات للتمويل الذاتي، منها بمعناه الواسع الذي يشير إلى القدرة الفردية للمؤسسة على تأمين مواردها المالية اللازمة من داخل نشاطها الاقتصادي، دون الحاجة للتوجه إلى مصادر تمويل خارجية. يُعرَف أيضاً بأنه المجهود الذي تُبذله المؤسسة للحصول على موارد دخل إضافية من نشاطها، ويتم الاحتفاظ بها دائمًا لتدعيم عملياتها المستقبلية. إﺟﺮاﺋﯿﺎً، يمثل هذا التمويل جزءًا من النتائج الإجمالية التي يتم إعادة استثمارها لتحقيق فائض نقدي يسهم في تمويل نمو المؤسسة.

ومن خلال تبني التمويل الذاتي، تستطيع المؤسسات الحكومية في سلطنة عُمان تعزيز كفاءتها وفعاليتها المالية بشكل يتماشى تمامًا مع الأهداف الاستراتيجية للرؤية، مما يمنحها فرصة لتحقيق استقلالية مالية أكبر. وهذا النهج يعكس التزام الحكومة بتطبيق معايير الحوكمة والشفافية في إدارة الموارد المالية ويسهم في تحسين العلاقات بين المؤسسات الحكومية والمجتمع، بناءً على الثقة في قدرة المؤسسات على تلبية احتياجات المجتمع بكفاءة وفعالية، وتشجيع تبني ثقافة الاستثمار والابتكار داخل المؤسسات الحكومية. وهذا النهج لا يساعد فقط على تحقيق التوازن المالي وتعزيز القدرة على الابتكار والتجديد؛ بل يجعل الحكومة بيئة استثمارية جاذبة للمستثمرين الذين يسعون إلى الاستدامة والموثوقية الاقتصادية. التمويل الذاتي، كمحور أساسي، يعزز استقلالية المؤسسات الحكومية وقدرتها على تحقيق الأهداف الرئيسية بشكل مستدام، مما يقلل الاعتماد على مصادر التمويل الخارجية ويدعم المشروعات الجديدة والاستثمار في مجالات تطويرية.

إضافة إلى ذلك، يسهم التمويل الذاتي في تعزيز الشفافية وتحسين التواصل الفعّال بين الحكومة والمواطنين؛ مما يعزز القدرة على التكيف بفعالية مع التحديات المالية والاقتصادية المستمرة. وبهذه الطريقة، نؤكد على أهمية نهج التمويل الذاتي كدعامة أساسية للسلطنة لتحقيق تطلعاتها نحو مستقبل مالي مستدام واقتصاد قوي ومتنوع، مما يسهم في بناء علاقات قوية ومستدامة مع المواطنين والجهات المعنية.

لا توجد منهجية عالمية موحدة لتطبيق التمويل الذاتي للمؤسسات الحكومية، وذلك لأن السياقات المالية والاقتصادية والثقافية تختلف من بلد إلى آخر؛ حيث تعتمد استراتيجيات التمويل الذاتي على الظروف المحلية والاحتياجات الخاصة بكل حكومة.

مثلًا في بعض البلدان، يتم تطبيق نهج ريادي لتحقيق التمويل الذاتي، بينما يعتمد آخرون على تطوير سوق أسهم حكومية، أو تعزيز الإيرادات الضريبية أو آليات تمويل خاصة أخرى. على نحوه، يتعين على كل حكومة صياغة استراتيجياتها الخاصة لتعزيز التمويل الذاتي بناءً على الوضع المحلي وتحقيق الأهداف المستدامة للتنمية.

وضمن هذا السياق، ومن خلال دراسة تجارب الدول الأخرى والبحوث الأكاديمية ذات الصلة حول تطوير منهجية التمويل الذاتي للمؤسسات الحكومية ، يظهر أن هذا العمل يحتاج إلى اتخاذ خطوات رئيسية تشمل الحصول على الموافقات اللازمة ووضع اللوائح القانونية الضرورية. ويبدأ العمل بفحص الاحتياجات المالية وتقديم دراسة تحول تفصيلية لتحويل هذه المؤسسات إلى كيانات ذاتية التمويل، مع التركيز على تطوير مبادئ الحوكمة والأداء المؤسسي. ويلي ذلك، وضع برنامج زمني محكم لتنفيذ الخطة وتقييم جميع الجوانب المشمولة أعلاه.  في النهاية، يتم تنفيذ الخطة ومراقبتها بعناية، مع التحديث المنتظم والتقييم لضمان استمرارية تدفق الأموال بشكل فعّال. وفي هذا السياق، يتعين على المؤسسات تبني استراتيجيات تقوم على استخدام مؤشرات الأداء لتقييم أنشطتها بهدف تعزيز قدرتها التمويلية؛ حيث يُفترض أن يكون التمويل الذاتي وسيلة لتعزيز الاستدامة المالية دون الاعتماد الكلي على موازنة الدولة.

وأخيرًا.. إنَّ تحدي التمويل أصبح يمثل ظاهرة عالمية؛ حيث لن تعد الحكومة وحدها المسؤولة عن تحقيق الاستدامة المالية في مختلف القطاعات، كما إن تبني فكرة "التمويل الذاتي للمؤسسات الحكومية في سلطنة عُمان لا تعني بأي حال من الأحوال أن تعامل هذه المؤسسات كشركات تجارية؛ بل تهدف إلى دعم المهام الرئيسة في المؤسسة وتعزيز قدرتها على تحقيق رسالتها وأهدافها، وتنفيذ مشاريعها بكفاءة مع الحرص على تعزيز ثقافة الاستثمار وتمكين ممثلي مؤسساتها.

تعليق عبر الفيس بوك