قصة قصيرة

"القرية العالقة" (17)

 

حمد الناصري

 

قال الماجد في كتاب "أسْرار البحار السبعة " ومِن قُبالة بحر العواصف ، سِرْتُ بإطمئنان ، وبصري أمُدّهُ إلى البَعيد ، وعلى  مَدّ الشوف ، أبصرتُ سَفينة قد ضلّت مَسارها ، وأيْقنتُ بأنّ إشارات الرّجاء التي تبعثها السفينة تنمّ عن قسوة واقعة ، أو أنها وقعتْ أسِيرَة قرصنة بحرية وحدسي لا يُخَيّبني أبداً ، فالسفينة كانت لبحّار تائهٍ حائرٍ في عرض البحر ، خائف ومُرتعب والنهار آخِذ في الزوال رُويداً رُويداً والمكان يَزداد ظلاماً والسّماء من فوق البحر تُنذر بنشاط عاصفة شديدة مُمطرة والأمواج تتقاذف فوق بعضها والرّعد يَعلو صَوته بفرقعة مُخيفة يُقلق السامع ولمعانَ البرق تشتدّ كأنها تقصف عَدوّا.

والاعجمي "ماغلين " ارتكبَ خطأً كبيراً حين خلتْ تدابيره البحرية من المَهارة والتصويب، ولمّا رأى بِعَينيه السُفن تبحر من رأس اليابسة كنُقطة فاصلة بين البحر الغربي والشرقي، مُنَفّذاً ما أمرته به، من تدابير صارمة، ناحية بحر العواصف، وقد أخبرتهُ بأنّ السّماء تكون مُلبّدة بالغيوم، شديدة السّواد وخطرها لا يتوقّف على مدار الساعة ولا خطّ زمني لتوقّفها ولم يَسْلم أحداً من أهوال عواصفها ولا نجَتْ أيّ سفينة مِن الغرق. فالسفينة في عرض البحر تحتاج إلى مَهارة حاذقة ورُبّان فذّ يَقودها إلى برّ الأمان.

وبدا لي مَسْروراً، وأخذ يَطمئنّ وسلكتُ به طريقاً أكثر سَلامة عبر نقطة الدوران برأس اليابسة وعرضتُ له الطريقة المُثْلى للدوران حول ذلك الرأس.. مُحذراً إيّاه من الاصطدام بعوالق صخرية على رأس اليابسة.. وأخبرتهُ عن البحر المَفتوح بأنهُ خيرٌ من بحار كثيرة ذلك لأنه أكثر البحار عُمْقاً وأقلّ نشاط للعواصف الماطرة وأكثر سَلامة بحرية وبعيداً عن مخاطر القرصنة.. كما عَرّفته عن نفسي وقريتي الكُبرى والعالقة وسردت له ما أنوي رصده في كتاب أسْرار البحار العميقة.

والرجل كان بحاراً مُستكشفاً كما عرّف هُو عن نفسه قائلاً:

ـ كانت رغبتي هي الوصول إلى نهاية ذلك البحر، لكن عواصفاً شديدة لا تتوقف وماطرة مُتتالية، وبقيتُ هنا مُنتظراً لعلّي أجد دليل ثقة وكنتَ أنتَ هو ذلك المُنقذ المُنتظر.؛ وبتوجيهاتك أبْتعَدت عن الخطر، وبفضل نصائحك نجوت من الموت.. ولم أتسَبّب في خسائر كبيرة، ولا أنكر بأنّه قد أصابني اضطراب، ونجوتُ مُسترشداً بتدابير أمدّتني بها.

توقف بُرهة ثم أردف قائلا.. وقد نصبَ رأسه إلى أعلى كالعمود:

ـ أنت رجل عربي شَهْم.

وفي ذات الكتاب، نجد البحار العربي أحمد الماجد، ذكَر نبأ الاعجمي التائه في البحر، وتحدّث عن قصص مُشوّقة وقال في أحدها: حكاية البحر ماتعة لا تُنسى، وقصصه مُشوّقة وصُروفه شاقّة تحمل في طيّها عِبَر عميقة وقُدرات هائلة من الطاقة والنشاط المُتميّز .

 ولا ريب فالماجد حملَ في مَسيرته البحرية التعريف بفوائد علوم البحر ، مَفاهيمه وأخلاقياته ، مُركزاً على كشف أسْرار البحار وأعماقها ، مُفرّقاً بين البحر الضّحل والبحر العميق والبحر المفتوح وبحر الأعماق الغليظة. ومُعرّفاً الفرق بين البحار المُظلمة والبحار ذات الأعماق الغليظة، والتي تُعرف محلياً بـ بحر الظُلمات.

وقال الماجد في الجزء الثالث من كتاب "اسرار البحار وفوائدها العميقة " ذلك الأعجمي التائه لم يكن مُدركاً لحركة الدوران على رأس اليابسة ،  لقد سُرِرت بكلماته وزوّدته بكل ما يحتاج وشرعتُ في زيادة ترتيب الأفكار والأساليب المُبسّطة وفصلتُها تفصيلاً، وشرحتُ له طريقة الدوران على رأس اليابسة وتدابير الوصول بسلام وأمانْ".

وفي الجزء الخامس من ذلك الكتاب، تحدّث الماجد عن القرية العالقة بتفصيل دقيق وقسّمه إلى أبواب وفصول ولكل باب مُدخل ومَسارات وتفصيلات بحرية وتُرابية.. وتحدّث ـ أيضاً ـ عن القريتين في نصّ طويل، وقال في سرديتها ، بأنّ القرية البحرية عُمرها يَمتد إلى مِئات السِّنين، وفي مُحيطها العَميق تقلّ دخول قوة الشمس ، وكُلما أوغلت في عُمقها ، تجد مِسَاحة أخرى أعمق.. وفي طبقاتها السَوداء أطنان من الظلام مُتراكبة قاسية الأعماق ظَلْماء كأنها رُكّبَت فوق بَعضها البعض.. وإذا ما تعمّقت في باطنها ، ازدادت مِساحة  عُمقها .

والقرية العالقة ، قرية تأريخية ، تضمّ مباني هندسية مُحصّنة ، تُراثية عميقة وكلما سردّت تاريخاً تجد آخر امتداداً له ، تاريخها طويل لا ينتهي وآثارها تحكي عن أقوياء البُنية ،عُرفوا بـ الرجال الصّلْد ، تعود بشريتهم إلى زمنٍ سَحيق، أدواتهم من الحجَر، مساكنهم كهوف مُوحشة  نُحتتْ في الجبال الصّماء ، عُمرها يعود إلى ما قبل  التاريخ.؛ ساحلها طويل مُتعرّج المساحة ، البحر يشغل مُعظمها ، جُغرافيتها مكينة تتجاوز الوجود ، رمالها ذهبية تُعانق الشمس في طلعته البهيّة ، فتجسّد مَشْهد ميلاد جديد على رمالها الأصيلة ، وفي غروبها منظر رائع يُعانق كثبانها الناعمة بإصْفرار له سِحر وجاذبية ونقاء يُشعرك بأنّ ملائكة أبدعتْ في تكوينها وساهمتْ في خَلْق تكوين مُدهش وتحوّلتْ قِمَم الجبال الصَلدة إلى نُتوءات حادّة  مُتعرّجة كأسْنان المِشْط وتبدو صُخورها كتُحَف أثرية رائعة، وحدائق صخرية صَلدة ، وجبال عميقة شامخة ، امتدّت تاريخياً إلى غربية وشرقية.

ومن نباتاتها العلاجية نبات "العتَر " وهذه النّبتة ذو رائحة نفاثة كأنها مُزجت برائحة الورد والياسمين ـ وتتمازج أشجار الليمون والبُرتقال والزيتون والرُمّان وأزهار مُتراكبة لا تُحصي ثِمارها والنّخل باسقات لها طلْع نَضيد.. ونبات العَتر يفوح برائحته العَبِقة تفوق الخيال، وبذور عطريّة مُركّبة من أزهار تَنبت في أودية القرية تميل إلى لون الصخور.

وقُبالتها تظهر قِمَم صخرية صَغيرة غارقة في عُمق البحر، يَطلق الاعاجم على النتوءات البحرية بـ الحديقة الغارقة.؛ والبحارة المحليين يعرفونها بـ "سَلامة وخَواتْها".؛

توقّف حمود قليلاً ثم كوّر يديه، وشدّ قبضته على عَصاً "جَزْر" رأسها الأعلى عبارة عن جُزء مَعدني صَلب، تُعرف صِناعته في تُراثيات الساحل المُهادن.. ثُمّ أردف :

ـ تُعتبر قرية البحر موروث تاريخي مُتنوع ومُختلط ، بروعة جمال معالم القرية الأثرية والبحّار الماجد الاوّل ، عرّف عن نفسه بأنه من عائلة الاسعد ، ذات الصّيت العالي في منطقة البحر الكبير .

ولا أخفيك يا ولدي سِراً ، فأنا من عائلة الأسعد  ، ومن عائلة ذلك البحّار العربي الماجد ومن قرية رأس البحر " القرية العالقة حاليا" ، وأنا وهو ـ أيّ الملاح العربي ـ وأمّك وأبيك وأنت امْتداد لتلكم القرية.

سكت بُرهة ثم استأنف حديثه:

ـ دعني أُحَدّثك عن البحّار أحمد الماجد الأول.. إنهُ من أهل قريتنا العالقة، ومن عائلة الأسعد ، وعُرفتْ لاحقاً بـ السّعْد   وهذه العائلة عَصماء شُجاعة ولها مآثر حميدة في مُجتمع القرية التاريخية ، كما سَعِدتْ بسيادة المِلاحة البحرية شرقا وغرباً ، ولُقّب الماجد بسيّد البحار وكلّ المَرجعيات البحرية تُعرّف الملاح العربي بـ أسد البحار.

ولا غرو فـ أحمد الماجد رجل أشمّ ومُهاب ذو عِزة وأُنْفة وكرامة ، تسيّد البحار الشرقية إلى رأس الاستراحة ووصل إلى نقطة " رأس الدوران " وعُرف ذلك الرأس برأس الامل عند كثير من الأعاجم ، وكتب في تاريخه الذهبي بأنه أنْقذ مُسْتكشف أعجمي كان عالقاً على ذلك الرأس ضائعاً لا يَعرف الدوران، وحائراً في بحر الرأس ، وجِلَ القلب ، مُشتت الذّهن ، مُحبط الفِكْر ، حائراً لا يَهتدي إلى شيء ، مُغْلَق التفكير لا يرجو سلامة ولا يَنْشُد نجاة ، والخطر مُحيطٌ به وقد اشتدّ قساوة وازداد قتامة .

والملاح العربي الكبير ، يحمل إسْمك العظيم، فأحمد الماجد الأول هو جدك الأكبر من أمك وأبيك ، وكِلاهُما ـ أعني أبويْك ـ يَلتقيان عند الجدّ الأكبر ماجد الاسعد .. وفي مخطوطة أثرية لإبن ماجد ، تحدّث  فيها عن مَتانة القرية، وسرّها المكنون في صَدره " فإذا ما أضاءتْ الشمس وأشرقتْ على قرية البحر، تبدو مَنازل القرية العالقة مُشْرقة ويَمتد ذلك الوهج إلى جبالها ووديانها ورمالها.. وحين تغيب الشمس يبقى نورها هادئاً بضَوء القمر، وينعكس سِحْر القمر مُنبسطاً على رؤوس جبالها الصَمّاء، إنه لسِحر عظيم يأسر الألباب.

 وبكل فخر وشُموخ تحدّث عن نفسه : وُلدتُ بالقرية العالقة وترعرعت فيها ، واستطعتُ بعزم وعِزة وإيمان كبير، أنْ أجعل الساحل المُهادن مُثيراً للأهتمام ، بعيداً عن قرصنة الاشرار ، بعيداً عن الاقتتال.

 ولنْ يأتي اسْتقرارٌ للساحل المُهادن ما لم تكن قرية البحر فاعلة ومُؤثرة فيه ناهيك عن البحار القريبة والسبعة البعيدة وأهل قريتنا ذو رشادة وأُنْفَة وفِطْنة وأنا أحْمَد الأسْعد سِرتُ على منوالهم واقتفيت أثرهم وسَعيتُ إلى الاستقرار، ووقفتُ مُؤيداً سبيل السّلام ومُعاوناً المُجتمع على التعايش والتّمكين ، حاضاً على الالتزام والإخلاص في كل عمل جميل وحاثاً على تطويع الظروف إلى سلامة الإنسانية ومُرغّباً بروح الواثق للتعايش بين قُرى البحر الكبير ومُؤمناً بالسّلام المُسْتقر ،  فما ينفع الناس باقٍ لا يَغيب .

وأهل قرية البحر يُسَمّون الجَد الأكبر بـ "الشيبة" وأهالي قرى الساحل الطويل يُسمّون الجَد بـ"العوود" والقرية الأعلى تزداد أهميتها يوماً بعد يوماً ، بدءً من حاضرنا الذي هو ماضٍ لكم ، والرأس الأعلى ، قرية بحرية صغيرة صَخرية تظهر على سطح البحر، وتظهر نُتوءاتها كأسْنان المِشْط فكُلما ارتفع البحر ظهرتْ تلك الاسْنان كيْ لا تغرق.

قال أحمد الصغير وهو يسحب نفساً عميقاً ويُخرجه مرة واحدة:

ـ هل نقول بأن القرية التأريخية والقرية البحرية عالقتان في البحر مُنذ القِدم.؟ وهل كانَ للقرية التأريخية في غابر الأزمان انحدارات وانكسارات فكوّنت نُتوءات لا قِبَل لها به، وكما نراها اليوم.؟ ولماذا تبدو الجبال والصخور كأنها تقطّعت وانفصلتْ عن بعضها ، أليس في ذلك بُعْداً وشأناً؟ واللافت للنظر بأنّ الجبال الصمّاء قد انفصلتْ عن القرية التأريخية، وسؤالي مجازياً  ، كيف تُفسّر ما يُحيط قرية البحر والقرية العالقة وقرية الرأس الأعلى من جبال وصُخور بحرية صَلبة وعميقة كأنها أشجار حجرية غُرستْ في البحر؟

ـ لا أخفيكَ سراً، أنّ كتاب" الفوائد العميقة في البحار السّبعة " لإبن ماجد لم يتحدّث عن سلسلة الجبال المحيطة بقرية البحر لكن جاء ذكرها كقرية صغيرة تحتضنها الجبال وتغوص في البحر ، إطلالتها على البحر الضيّق أكسبها قوة ومتانة ، والقرية الأعلى كأنها مُعلقة في رأس الصخرة الكبرى.

ولكن دعني أكمل حديثي عن ذلك الكتاب المُتكامل ، فالكتاب العظيم جاء في سبعة أجزاء في كل جزء كتاب.؛ رسَمها بيده وخطّها بمداد قلمه ، مُنطلقاً من إيمانه بمسؤوليته للنهوض بمستوى المعرفة وعلم البحار ، وإنْتقاءً للأهمية المعرفية ، واضَعاً الأجزاء واحداً تلو الآخر  مُستقلة ،رغم أنها جُزء مِن مَخطوطة " أسْرار البحار وفوائدها العميقة" وفي المخطوطة بيّنَ قوة مَعرفته وثقته بنفسه بأصُول البحار وصُروف تحوّلاتها .

وبدتْ المخطوطة البحرية مرجعاً تاريخياً مُتميزاً ، وصانَت  تجربة عميقة نادرة لا مثيل لها ، تناولتْ أهم مَسارات البحر وغُموضه فكانت حقاً تُحفة بحرية عظيمة.

يُتبع...

تعليق عبر الفيس بوك