عُمان في قصائدهم (6)

سمير القضاة.. وأنا مسقط هدَتني السبيلا

 

ناصر أبوعون

 

إذا كانت الأمكنة هي ذاكرة الشعر؛ فإن في هذه القصيدة يتحول الشاعر الأردني سمير القضاة إلى طائر فينيق يصعد نحو ركح الشمس، ليحرق نهاراتها القديمة ويُمطر ماء الحياة على أجداث اللغة ليحيي فينا الشعر بصور شتى، ويقنص أشعتها بقوس قصيدة غجرية،  تنبعث من جحيم الرؤى المتمردة على حالة السيولة التي أغرقت المشهد الشعري، - الذي سقط سهوا من قبل ومن بعد في جُب الاغتراب-؛ ليشعل غربة الروح قناديل بهجة تتأمّل في مستقبل مغاير وتستنهض ثورة شعرية جديدة تضعنا على جادة الطريق.

 

في هذا النص يرسم الأردني سمير القضاة -الذي أناخ ناقة الشعر على عتبة مسقط العامرة وفكّ أوكية القوافي فتفجرت أفلاجا من الموسيقى واندلقت في بحر جمالها المتجدد، ليخرج الشاعر والشعر ممسوسا بجنون العشق. (مسقطُ الرأسِ،حيثُ نولدُ فيها، وأنا مسقطٌ هدَتني السبيلا).

الشاعر الأردني سمير القضاة.jpeg
 

في هذا النص صار الشاعر بهلولا يتلو ترانيم صوفية وتعويذة شعر لتهيم الصور  على وجهها لوحة تشكيلية تراود القصائد وتصطاد أفكارا تتشظى أيقونات محبة، تتقافز بين حواف الأمواج بشصِّ الغواية بعد أن أسقط الشاعر روحه عمدا في (بالتة الألوان)، وذوَّبَ وجدانه في ذاكرة ريشة ترش الجمال بساتين بين فواصل التفاعيل؛ فيتخلّق واحات تستضيف البحر على طاولة العشق؛  ويمد يديه نحو سلة أقمار معلقة على (رابية القرم)؛ ليقطف ورد خدودها ويلضم عقدا من لؤلؤ شفاه كوكيبات تترجل على رمل شواطئها ويتشوف لهفة للجّة الحنين، لتكشف عن ساقيها. (جِئتها شاعرًا، لأقضي مُجونًا، ولقد عُدتُ، عاشقًا ضِلّيلا).

 

نرصد في هذه القصيدة تفاعيل بِكر تستعير القداسة من المعجم القرآني ويصبها الشاعر بعد مزجها بعاطفته الجياشة في دنان المعاني التي تتفصّد حبّاتٍ من فضة الوجد على جبين المعشوقة، فيتوهج بدرٌ بين عينيها يُصيّر ليل القصيدة نهارا تخاصمه الغيوم. (بينَ عينيكِ، كرمةٌ من بلادي، تغلبُ البحرَ، والنوى والنخيلا).

 

في هذه القصيدة يمسك الشاعر سمير القضاة بأزمة التراث، ويسوق قوافل العشق إلى مرابع مسقط، ويستحضر أو يحضِّر روح امريء القيس من عالم البرزخ، ويولّد أسطورة حداثوية تخاصم التاريخ وتكون ابنة بارة للقرن الحادي والعشرين وتتصالح مع العالم وتُنافي الصورة السلبية لقوم صالح والتسعة الأشرار الذين بعثوا أشقاهم فعقر الناقة تحت طود التمرد ونحر الفضيلة على مذبح الشيطان. (يا امرئَ القيسِ، قد عقرتُ المطايا، تحتَ أقدامِها، لأشفي الغليلا).

 

وعلى قماشة هذه اللوحة الشعرية الصغيرة المساحة تتولد من صدر الشاعر دفقات من التفاعيل الثرة المكتنزة بالحنين، والتي تنز لهفة تواقة للمحبوب،  وتتنوع جملها الموسيقية ما بين صيحات تتعالى تشدها ألف الإطلاق في القافية على قوس قزحي مغموس في ألوان من الفرحة تتقطر من أسنتها مهرجانات من الألوان الوجدانية وتتوزع موجات تترى من الموسيقى لتشكل في كل مقطع بِساطَ ريح يحمل سنابيد من العشاق، وينزلهم على شاطيء الخليل الفراهيدي، ويهبط بهم واحات من الفرح، ويستدعي من ذاكرة النغم فاصلة تتقافز من مقطع لآخر على تراتيل سورة (المزمل)، وتنقلنا إلى عوالم من التصالح مع الذات والعالم عبر رائعة إيليا أبي ماضي "أيهذا الشاكي وما بك داء" (كلُّ يومٍ يمرُّ، دونَ يديها، سوفَ يُلقي عليَّ، قولاً ثقيلا).

 

يتكيء الشاعر "القضاة" عبر هذا القصيدة على فكرة البساطة،  وإن كان يوظف لغة شعرية بكر في ظاهرها العادي والاعتيادي وفي باطنها رصانة وملكية لم تمسسها الصحافة بسوء،  ولم تستهلكها قنوات التواصل الإلكتروني والورقي،  وتتولد منها شحنات عالية من الطاقة العاطفية تنشطر جزيئات وتتناثر على كامل مساحة النص في صورة متتالية موسيقية تعزفها آلة واحدة في كونشرتو للعشق. (وغليلُ الهوى، لقاءٌ وشوقٌ وعهودٌ، لا تعرفُ التبديلا).

 

أما عهدي بالشاعر سمير القضاة فإننا لم نلتق تماما، إلا عبر مصافحة عابرة بين صفوف النادي الثقافي وكان ليلتها بصحبة أسرته، ولم نجلس بتاتا على طاولة للنقاش التي استبدلناها لاحقا بحوار ثقافي على صفحة الواتس آب نشرته جريدة الرؤية العام المنصرم. وهذا الحوار. (حلُماً كانَ، أو أقلَّ قليلا، بعضَ زيتٍ، وأشعلَ القنديلا).