عُمان التي في خاطري

 

سعيد بن أسلم الشحري

 

جرت العادة أحيانًا أن كل مألوف أهون على النفس ومجاراتها من غريب مستحب، مُعللًا أن أعباء وجوده لا تتوازى مع دواعي البحث فيه، وإلا كنَّا كمن يستدعي أوهامه لتحل مكان أحلامه التي عجزت عن تجسيد نفسها في الواقع أو كمن هرب إلى نفسه مهما كانت الاعتبارات؛ فالهروب للنفس، حتى لو اعتقدنا في مصداقيته وسار بنا الظن في هول مآله ما هو إلا شكل من أشكال الاستسلام والدعوة إلى تلقي مزيد من الصدمات واختيار مسار العجز المكتسب طريقا آمنا من الخوف القاتل والمخاطر التي لا ترجى حساباتها مهما كانت المحاولات.

لقد انتابتني نزعة نحو حديث الضمير الذي طال به الحوار وعبث بالذاكرة طامعًا في الوصول لمشارف الحقيقة وأثار العقل والوجدان في الحديث عن الوطن همومه، وطموحاته وأحلامه وهواجسه؛ فعُمان التي في الوجدان هي الجغرافيا بكل ما فيها من تنوع في التضاريس وتقلبات المناخ وأطلال من المادة والروح وتفاعل الإنسان مع ظواهر الطبيعة، كما إنها التاريخ بسياقه الذي لا يعرف الفراغات، والزمن المتحرك فيه وتدافع الأحداث ومصائر الأمم، والحق أن عُمان التي تسكن عقلي هي ذاتها التي عشنا ونعيش في ظلالها إلى هذه اللحظة مهما كان الطموح مستعدا للكثير من المغامرات وصدق فيها الواقع الأحلام والآمال.

النهضة الأولى: لقد خاض السلطان قابوس- طيب الله ثراه- معتركا اتسعت مساحة التوتر فيه وبدا أمامه حلم وطن يضيع ولا يرجو قيامه وشعب فقد الثقة حتى في أسباب وجوده وحدود مترامية تبحث عن دولة تمارس أمنها القومي وبسط نفوذها بعيدًا عن كل أسباب التردد ودواعي المجازفة. فلا شك أن كل دولة شديدة الصلة بمن حولها وتسعى لصون أمنها الجغرافي توافقا مع جيرانها لاسيما وهي تعيش وطأة صراع وانقسام وأجندة تجعل كل الخيارات ممكنة، فحينما تهتز الحقائق الإنسانية تصبح تحديات الجهل والتخبط متاحة للجميع ويصبح المألوف بديلا عن الحكمة؛ بل ويضحى الأمن الاجتماعي فريسة مستباحة للفوضى والأهواء الضالة.

لقد كان السلطان الراحل واضحا في تحديد هوية الدولة الحديثة وأضفى عليها من فكره وسجاياه ما جعلها صورة نابضة من تاريخ هذا الوطن الذي ظل متفردًا حتى في خصوماته قبل مؤيديه وفي معاناته كان شامخا ومرابطا قبل سعادته وفي صبره محل إجلال في مواطن العظمة والتبجيل، هكذا فإن ملف الوحدة الوطنية والنزاعات المسلحة ووأد الأفكار الدخيلة والنار الخامدة تحت رماد المذهبية والمناطقية كادت تفتك بالناس فتكًا، كما إن اختيار مبدأ السلام حينها لاشك أدعى من فكرة المكابرة، فإذا كانت الأحداث ترمي بحمولتها دون مراعاة ولا تترك لنا فرصة للاختيار صار الواجب الوطني لازماً بالضرورة لا ترغيبًا أو مفاضلة.

والحق أن السلطان قابوس حدَّد ما يجب على الدولة أن تكون عليه وماذا تريده عطفا على ما تمتلكه؟ وما هي مساحات التأثير والمخاطر التي لا ترجى حساباتها مهما بالغت في قياسها، هكذا فإنَّ أواسط النهضة شهدت سجالًا فكريًا ومتغيرات في السياسة الدولية وصار حتمًا على الدول تحديد مرتكزات المبادئ السياسية قبل مواقفها؛ فالمبادئ هي من تصنع المواقف التي تتقلب بتغير المآرب وتبدل الأدوار.

ولهذا فإن السلطان قابوس- طيب الله ثراه- لم يرد أن يدخل التاريخ كرجل مصلح يبني مجده السياسي ومواقفه الوطنية وروحه التوّاقة للبناء لكسب الولاء وجذب الأنظار إليه؛ بل كان حضوره أصدق تعبيرًا لما يحمله من حب لشعبه، وكانت منجزات النهضة وما تحقق على سائر المستويات التنموية دليلًا مُبينًا لرؤيته وحنكته التي قادتها جسارة القرارات قبل الخوف والمراهنة على دعم الآخرين، فلم يُعلِ السلطان قابوس كبرياء الحاكم على مصلحة الوطن، وآمن منذ البدايات أن مرارة الهزيمة أقل وقعًا على النفس من أغلال العبودية؛ بل وعقاب الضمير يؤنبنا بخطايا لا تغتفر حينما يصبح الضمير الإنساني سذاجة في عرف الساسة وقداسة عند من يعتبر كرامة الإنسان قبل التهام الأوطان والعبث في مقدراتها.

هكذا ظهرت ملامح الدولة العُمانية الحديثة وحلت الواقعية السياسية بديلًا للشعارات الجوفاء، وكان الحياد الفاعل للدور العُماني بالغ التأثير كما رأيناه وما تمنينا أن يكون عليه. ولعل قضايا الصراع على النفوذ والأحادية القطبية والأجندة المبيتة للتدخل؛ بل من يدعو للحرية شعارًا ويمارس العنف في الخفاء، أليس من الغرابة أن يتحول منذ اللحظة الأولى دعاة اللبرالية إلى أكثر من تبرؤا منها؟ بل قل إن شئت أين هي الوجوه المعبرة عن العدالة وأين هي الوجوه المستعارة؟ لقد كان كثيرا مما ذكرته وقليلا مما تحفظ ذاكرتي عن الإفصاح عنه أبرز ما ضجت به الحياة العُمانية.

ولا أبالغ عندما أقول إن الوطن في نهضته المتجددة بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- أجاب عن شتى التساؤلات وما رافقها من غموض وجعل من إنجازاته وما تحقق في الفترة الوجيزة شواهد لا تقبل التأويل أو نبوءات المفكرين، إنك تقف أمام زعيم وجد نفسه أمام أهم ميراث لحقبتين من أخصب وأعمق التاريخ العُماني والإقليمي، وهو مع ذلك وجد نفسه يستحضر روح إمبراطورية عانقت الآفاق، وعشقت المجد، وطافت الجغرافيا، واستبدت بها الظروف، وعاندتها الأقدار، وتقبّلت مصيرها المحتوم كما يتلقى الكبار أعتى الصدمات بكبرياء وأنفة وشموخ لا يعرف الانكسار.

حقبة السلطان قابوس- رحمه الله- حاضرة في الأذهان، لأنها نهضة أسهمت في بناء دولة عصرية بمنجزات ملأت الآفاق وصانت الأرض والإنسان بين مسؤولية واجبة وضرورة ملحة وحقوق لا مجال للمساومة عليها.

إننا نعيش مرحلة بين فترتين وهي أبعد ما تكون عن المُقارنة، إذا كانت المقارنة تدعو إلى استدعاء ما كان من الظروف وتتجاهل ما ولّده الحاضر من أعباء، فلا شك أن إطلاق الأحكام على حقب تاريخية بكل مخاضاتها وتدافع البشر فيها وتقلبات أحوالهم وما كان للسياسة حينها من احتدام، لهو أصعب ألوان الإجحاف، فهب أنها خُيِّرَت أن تخوض صراعًا فكريًا مع الماضي أو تختار أن تغرد وحيدة كمن ينادي على العميان؟!

لقد تولى جلالة السلطان هيثم الحكم وعينه على اقتصاد يعاني ديونًا أثقلت كاهله مع تراجع في الطلب العالمي على النفط جراء أزمة كورونا وما رافقها وخلفتها من آثار اقتصادية كادت تتحول لمعضلة تدفع بنا لنفق مظلم لا نعلم نهايته، وبحر متلاطمة أمواجه لا ساحل له فنراه، أو طوق نجاة يُحيي ما أوشك على الهلاك! لقد أولى جلالته- أيده الله- خطة التوازن المالي اهتمامه وعنايته؛ فهي إحدى مرتكزات رؤية "عُمان 2040"، ليس لأنها رؤية قائد ومستقبل وطن فحسب؛ بل لأن ذلك الماضي العريق وما جددته فيه حقبة النهضة من حياة وحب عُمان الساكن في قلبه وطموحه المتزن وشغفه المتقد أوحى له أن العظماء لا تركعهم المصائب ولا يرخصون أمجادهم خشية مصائرهم ولا يغادرون أحلامهم مهما حاصرتهم المعضلات وضاقت بهم الفرص وبدا لهم ألم الحاضر أكثر رأفة من مستقبل بلا ملامح وأمل بلا عقيدة وأمنيات أهدت خطامها للمجهول بلا ضمانات.

والحقيقة أن الدعم الحكومي دار بين خطة متعلقة بالتوازن وأخرى للتحفيز، فكان من التوازن رفع الكفاءة المؤسسية القادرة على إدارة الموارد المالية من أجل تنويع مصادر الدخل الذي من شأنه حماية المنظومة الاجتماعية من الضياع وحتى لا تنطبق علينا مقولة من فقد أمنه الاجتماعي كان كمن سل معوله هادمًا بنيانه أو كمن ضل في منتصف الطريق فلا عودة آمنة أو بريق يستحق المجازفة.

كما أنَّ التحفيز لم يكن بعيدًا عن كل ما كان وما ينبغي أن يكون، فكيف لنا تحقيق الاستدامة المالية وإنعاش الاقتصاد دون ترشيد الإنفاق وتقوية الذراع التنموي للدولة كدعم المؤسسات الصغيرة والشركات الوطنية وبدائل استثمارية منتجة ومنفتحة بلا احتكار أو استنزاف للموارد.

لقد اهتدى جلالة السلطان هيثم بفطنته للتحديات التي لاحت له من بعيد وأحداث حاولت مرارًا فرض نفسها دون مفاوضة وآمال على عاتقه تغفل تداعيات الأزمة العالمية وتصم آذانها عن كل تبرير طمعا في انفراجه أو هروبا من مسؤولية تتطلب التنازلات.

إنني أرى العُمانيين يعيشون أبهى لحظاتهم مدركين أن حجم المنجزات لا يقل عن أعباء السعي لها، ويعلمون أن دعوى المنافسة حتمية والاحتماء بالوهم الكاذب، والعزيمة الخائرة كمن يقاتل في معركة خاسرة لا نصر ترجوه أو مصير تدرك تكاليفه كما علمتنا دروس التاريخ بأن المجتمعات لا تعمرها المحاصصة ولا استرضاء القناعات بل إن من فرقتهم المصالح لم تجمعهم المبادئ، وأن فتنة الانتصار للفكرة أشد من بشاعة تمريرها.

هكذا يمضي السلطان هيثم المفدّى وشعبه معه لرؤية آمنت بها القلوب وأنصفتها العقول وصدقتها التجارب؛ بل ألمح جلالته من خلالها أن الشعوب تعيش كي تنتصر على آلامها، وتسمو حين تختبر وحدتها، ولم تكن عُمان وطنًا يجمع العُمانيين فحسب؛ بل رباط قدسه الإيمان وحفظه التاريخ وسمت به الجغرافيا وصان سلاطينه أمنه وحدوده، وكانوا في ذلك دعاة حق ورجالا حينما عزّت التضحيات.

تعليق عبر الفيس بوك