قصة قصيرة

القرية العالقة (15)

 

حمد الناصري

تأوّه أحمد بصوت عميق وزفر أنفاسه الحبيسة.. صوت أمّه يتردد على مسامعه.. انتفضَ واهتزّ جسده:

 لا تكن جباناً.. كن مِثْل أبيك.؛ فالحقيقة يا أحمد ليست كما تعرفها، وإنْ لم تقدر فلا تعبث بها ولا تُسَلّمها لأحد، تحت أيّ مُبرّر وظرف.. ولن تستطيع أنْ تمنع الشرّ مهما أُؤتيتَ من حِكْمة وسَداد رُشْد، ورجال القرية ذُكِروا في مرجعيّات ثقافية ودُوّنتْ قِيَمهم التاريخية بمَعاني الفخر والنخوة والإباء.؛ ومَهما أَخْفى الحاقدين فضائلهم وزَوّروا تاريخهم، فسيرتهم حُجّة ودليل وبُرهان ومَصير.

جزء كبير من امتداد ساحل قريتنا العالقة، اختلط بغُرباء وأعراق تجمّعت على ساحل المَمر العميق، وبعض تُجار عابرين بِيْض وشُقْر.. يتحدثون بلغة تشكّلت كوسيلة تفاهم وأداة تعارف ولُغة مُركّبة شملتْ لُغات العابرين على راس المَمر ، وظهرت كلغة مُشْتركة ناتجة عن احتكاك وتجانس وتعايشت صلاتهم في البحر الضّحْل واختلطت أنْسابهم وعلى مرّ الزمن حاول الشُقر خَلْق أعداء للقرية العالقة ، مُبْغضين لأهلها ولأهل قرية راس المَمر وازدادت دسائسهم ، فتمكّن البيض من الوصول إلى السُكان الأصليين من عرب الساحل فأثاروا البَغضاء بين أهالي القرية وساحلها الطويل وكوّنوا جموع تعصّبية وتحزّبات ، وازدادت المكائد بالساحل وتمكّن الشُقْر من السيطرة على قرى الساحل والتحكّم بشكل كامل وتمكنوا من الاستيلاء على بعض طُرق التجارة على المَمر العميق وسيطروا على قرية الراس لسنين طويلة.

 وكتب رجل منهم أنّ عرب الرمال والاخوار ذهبوا لتمكين سلام التعايش مع البيض ، فخرجوا بسلام اللذة والمُتعة.

    انتبهَ أحمد على صوت أمه.. بَعد صمت طويل، لم يكد يلتفت إليها إلا ودموع تفيض من عينيها:

 

ـ أوصيك ـ يا ولدي ـ ما وصّاني به جدي.. اعْمُروا الأرض، بالقوة والبأس، والنشاط الدؤوب.

وأقول لك سراً وجهراً، لا تنْفُث ثقتك بالرجال ولا تقطع أمراً عنهم حتى يَشهدون.

ـ ولكن يا أمي، غُرباء القوم هُم أشدّ مِنّا قوة وأكثر عَتاداً.. وينقصُنا الكثير من العتاد والسلاح. أؤلئك الاقوام ديدنهم المَكْر وأفعالهم خبيثة مارقة.

ـ أهل قريتنا هُم الأشدّ بأساً على الغُرباء ، وأكثر نفيراً لمُقاتلتهم  وأقرب رُحْماً لبعضهم.. ولو علمَ جدي "العوود" أنهم أهل مكر وخبث لأوجعهم بضربة واحدة.

رجال القرية العالقة ذو عِزّة وكرامة ، رجالٌ شِدادٌ من أهل حِقْف الكثيبة، يُعرفون قديماً بعمالقة البحار.

تحدّثت في سِيرتهم أهم مراجع التراث وخاصة ما يُعرف بـ "تُراث القرية العالقة وساحلها الطويل". ذلك الكتاب لا ريبَ فيه ، فقد أشار إلى ِسيرة طويلة خَلّدت مناقبهم الطيبة، فنالت استحقاق المكانة العالية ، وُصِفت القرية بأنها حِصْن مَنيع، تُحيطها جبال صخرية جرداء ، جاوزت مسافاتها حدّ الشوف ، تُرى بالعين المُجرّدة كخط مُستقيم مُخيف.؛

وفي مدخل صفحة "مآثر السّادة العُظماء" تحدّث الكتاب عن رجال القرية العالقة بأنهم ارتبطوا بتقاليد بَحْرية توارثتها الاجيال، جيل بعد جيل، اكتسبوها بالجِدّ والمُثابرة وبنشاط دؤوب لا كللَ فيه.

ولا تزال وصيّة" العوود" عالقة في ذهني، كأنها طُبعت في ذاكرتي ولم تُفارقني كما لو أنّي صاحبتها.. فلسفة الأولين خالدة، وكلامهم صادق، كأنما واقعاً نقرأهُ اليوم وصدق "العوود" حين قال:

ـ القرية العالقة عَمرها مَن قَبْلنا، تُراثها غرسٌ للناشئة، قِيَم للرجال وتهذيب ورشاد للصغار والكبار .. أرضٌ خصبة وجبالٌ مُتفرّدة وأودية عميقة وسُهول حصْباء وعلى جنباتها حجارة صَمّاء ، صَلدة ، غليظة السَواد.

قال عنها ـ جدي العوود" بأنّ سلاسل جبالها قيعانٌ غُمرت بالماء شكّلتْ أحزمة تفرّدت بصلابتها وقوتها ، فكوّنت أسْواراً مرتفعة.. كما وجدتْ رسوم ونقوش بشرية دلّت على تعاقب ازمنة وعهود وسِنين بعيدة وعميقة ، وأرضها واسعة  قامت عليها أنشطةٌ زراعية ، وساحلها الطويل امتداد لقرية البحر وانشطة أخرى كتجارة البحر في مرافئ القرية العالقة، تُؤكد بأنّها  ـ أي القرية ـ مركز لأنشطة بحرية تجاوزت الامتداد وأنّ سُهولها زراعية لوجود شواهد حيوانية من خيول وأسود وآثار تاريخية.

مطّ أحمد بوزه مُتعجباً وحدقتْ عيناه، كأنما عاصفة شدّته، وقال:

ـ هل تلك النقوش البشرية دليل على قِدَم بشريتنا أم هي ترتبط بمتغيرات علاقة البحر بالجبل أم هي بفعل زلزلة أرضية.؛

بقيت أم أحمد في صمت ولم تُجبه ، ثم استطردت:

ـ اسْمع كلامي وارقُب قولي.. دع عنك علاقة الجبل والبحر والطوفان والزلزلة والنقوش البشرية، فالقرية أهم من كل تلك الارتباطات والمُتغيّرات، ولا أوصِيك إلاّ بما وصّى به جدي العوود.. "

احْذر كُلّ الحذر من الرجل الطويل ذي العينين الغائرتين، إنه لا مأمن منه، حاقدٌ على القرية، مُبغض لأهلها.. هو العَدو فاحْذره.؛".

ـ لماذا .؟

ـ قال عنه أبوك عبدالله، بأنه رجلٌ ماكرٌ وخبيث، مثل أبيه مَكر بأهل قريتنا واعْتزلنا ثمّ استنجد بالغُرباء فتوافد الاوغاد واقتسموا كل شيء.؛

وأزيدك من الكلام أوحَشه، فقد توعّد ذو العينين الغائرتين إنْهاك رجال القرية العالقة وفصْل ساحلها الطويل .. ذلك الساحل المُهادن هو ساحلنا.؛

    أخذت خديجة نفساً وزفرته.. وتحسّرتْ.. آآه. لو كان عبدالله حياً لما سكت ولا تنازل عن ذلك الجزء من تُراب القرية ولا عن ساحلها ولا عن مياهها العذبة.؛ مياهنا عذبة ومالحة يُشكلان معاً كنزاً ثميناً للقرية وقوة كبيرة للساحل وما قريتا الأعلى والراس عن ذلك ببعيد.؟ فكلّ ما ذكرتهُ لي، تحدّث عنه "جدي العوود".. البحر ثمين والأرض كنز مكين والماء خير كثير. فحافظوا عليهن ولا تغفل عنهم طرفة عين.؛ وأعطيك شيئاً من كلام "جدي العوود" .. إنْ أودعتْ السماء في أرضك كنز ثمين فدافع عنه بقوة وصدق وأمانة ، وحافظ عليه كما تُحافظ على عينك.؛

ـ وماذا عن البحر والساحل الغربي والمَمر العميق.؟

ـ البحر كبير وقرى الساحل امتداد غير مُبين للقرية ، قربتْ السنين أو مضتْ  فهي تبقى جزء ثمين لا يُترك ولا يُنسى ، تحدّث عنها جدي العوود، بأنها حتى ولو تقاربتْ وتعايشت وسادتها روح التوافق، فهي تبقى جزء من أرضنا لا تغيير في تاريخها ولا تبديل في اجتهاداتها ، أرض وكيان عالٍ في أفهامنا وفي أفكارنا إلى أنْ تنتهي الحياة والأرض والناس.؛

والمَمر العميق هو بحر ممتد يتسع ويضيق وقرية البحر الكبيرة تُشرق عليها الشمس وهي في قرار مكين وتغرب عنها وهي في حفظ عناية لا نراها لكنها معنا نستأنس بها ونستقر بذكرها في أنفسنا.. وكثير من البحارة يظنّ بأنّ الشمس تُشرق من أعماق بحرها الكبير. ولذلك أطلق الغُرباء على بحرها الكبير ، " بحر الرمال الذهبية".

 وأجدادنا الأوائل قد تفاعلوا مع البحر الكبير وأطلقوا عليه البحر المفتوح، وشقّت سُفنهم عُباب بحر الظُلمات، والملاح الاريب أحمد الماجد مَخر عُباب البحر الكبير، وصُولاً إلى البحر الأكثر عُمقاً إلى بحر الظُلمات ، إلى راس الحُلم المُستكشف ، الذي عُرف عند الغُرباء براس ماجد  ، وسار برجائه المُستكشف إلى آخر نُقطةٍ بحرية لم يصل إليها أحد قَبْله طوال سِنين خلتْ وقرون مَضت، إلى عُمق بحر الظلام وإلى البحر الأكثر عُمقا وكان رجاؤهُ ذاك غاية وهدف.

 ذلك البحار العظيم من أهل قريتنا العالقة، ويُكنى بالماجد  وسيّد البحار في بعض المرجعيات البحرية . والماجد تسيّد البحار الشرقية إلى راس بحر الرجاء وقد أطلق عليه ، ببحر الوجود.

وذلك  ما يدلّ على أنّ البحار الماجد أنه قدر على  الوقوف عند النقطة الاعمق ببحر الظلمات ، وكان سَبْقاً استكشافياً ووجوداً لم يصل إليه أحد من قَبْله.

وما كتبه وما رصدهُ الملاح العربي الماجد، يُعدّ وثيقة تاريخية ومرجعية لمعرفة البحار  سطحها وعُمقها وطولها وأبعادها ومرجانها ولؤلؤها وألوانها، وسَبر أغوارها وبيّن الأدوات المُستخدمة في الغوص إلى قاع البحر والقواعد الأساسية لمستكشف البحار.. وعرّف عن عددها ومُسطحاتها ودورانها وأشْهر مَمراتها العميقة والضحلة.

 كل ذلك جاء مُفصلا ومُرتباً بحيث يَسهل على كل مُبحر، التزوّد بما يكفل له الابحار إلى أعمق البحار ، وقد ذكرَ مَعادن البحار الثمينة وتُرابه الذهبية ، مُؤكّداً في مدخل  تعريفي عن تُراب البحر، تفصيلاً دقيقاً مُبيّناً بأنّها ، أيّ تُراب أعْماق البحار قد تكون في قادم السنين بديلاً للذهب المعروف لدى الناس.

ـ أمي.. إني أشعر بالذنب إنْ لم أستطع تنفيذ وصيّتك.؟

ـ لماذا.؟

ـ كيف لي أنْ أفعل كل هذا، وأحافظ على ما جاء في وصيّتك، إنهُ لأمرٌ صَعب جداً ، فما فرّطتُم فيه مِن قبل هذا ليس هيّناً وما تخلّيتم عنه أمرهُ يشقّ عليّ وحدي القيام به.؛

ـ القرية وبحارها وكنوزها مسؤولية الرجال وأنت رجل كفؤ.

ـ كيف تُحمّلينني ما فرّطتم فيه ، تجنّيتُم على بساطنا الساحلي وتقولون بأنه الساحل الثمين. تنازلتم عن شرقكم وشمالكم وجنوبكم وغربكم وتقولون عنها جزء ثمين .. تغنيتُم عن ممتلكات لا تقدّر بثمن ، ثم ألقيتم بالثمن بمحض إرادتكم .. فمن المسؤول يومئذ.؟ ومن يتحمّل عواقب السنون أنا أم أنتم ومن قبلكم من الرجال؟ .

سكت قليلاً ثم أردف .. أمي ، اسمحي لي أقول .. انتم المسؤولون عن الأرض والبحر والثروة ، انتم ضيّعتموه بضعفكم وتخاذلُكم .. ذلك الساحل المُمتد إلى أقصى عُنق النهاية الضيقة كنز عظيم وما تُراب البحر العميق إلا كالشمس الذهبية حين تُشرق تكون على بهجة وحين غربتْ أوحى منظرها بأنها لا تعود.؛  ولمّا عادت مُشرقةً تباكيتم على غُروبٍ سامَر حنين في وُجْدكم  وقُلتُم الشروق أفضل.؛ وها أنتِ تقولين وبعظم لسانك .. أنه في قادم السنين ، رمال البحر الذهبية ، ستكون بديلاً عن الذهب المعروف لدى الناس.

والسؤال المُحيّر .. ماذا تأمرينني أنْ أبقى عليه في بضع سنين ، احشد الرجال ام ابحث عن عتاد ام ألجأ إلى قوة خارقة .؟ أم استجيب للخائنين .؟

 

أذكركِ أمي .. بأنّ أمركم كان فُرطاً .. خيانة القرية .. مُهادنة الاوغاد ..انشقاق لا رشاد فيه.. وضياعاً لحقوق رجال يأتون بعدكم.

سكت قليلاً ..زمّ بوزه وفتح عينيه ومدّها إلى الأفق ، يُناجي السماء بعيون دامعة ، وكأنّ السماء انتفضتْ له فأخذ يُلقي ما تبقّى من حديث في داخله:

ـ سِنين مضتْ على تقاعس الأجداد، نُهبتْ خزائنهم وسُرق تُراثهم وضَعفت قوتهم.. وكانوا على ذُلّة وهوانٍ وبمهانةٍ حُطّ من قدرهم وانْتُقصت مكانتهم وشُوّهت سُمعتهم واستُخفّ بهم .؛

يا أيتها السماء النقية، فهل أنا المسؤول عن اتفاقات هزيلة لا تُسمن ولا تُغني من جوع، أم أنا الذي حرّرتُ كتابها المأفون فارتبطتُ بمنافع سُررتُ بها ، وتهيبتُ من حدوثها؟

ايتها السماء .. إنه اتفاق مُفجع، ونصّ مُبطّن وخطوط لا تُغني ولا تسمن من جوع.

وكأنّ أمهُ خديجة ، تنتشل صَمته ، وتصف ما يختلج في داخله:

ـ بُنيّ .. أعلم ما يدور في نفسك.. ذلك ما بُشّرنا به أيضاً ، وابوك عبدالله لم تشغله مكاسب الغُرباء ولم يتغاضى عن مُستقبل القرية.

تعليق عبر الفيس بوك