قولبة المشاعر الإنسانية والعولمة المقيتة

 

عصام بركات الزعبي

هل تُعبر القلوب الحمراء عن تلك المشاعر النقية الصافية الطاهرة التي تفيض بها قلوبنا؟ تساؤلات كثيرة وكثيرة تجول في خواطرنا بما كان عليه قبل عدة عقود من الزمن أي قبل ظهور الإنترنت ومصطلح العولمة أو قبل انتشاره هذا الانتشار الواسع اليوم.

فإذا كانت العولمة بمفهومها البسيط جعلت العالم قرية صغيرة ما يعني أن تحيط بكل مستجدات المعمورة من أدناها إلى أقصاها فهذا لا يعني أن تستعيض عن قريتك ومدينتك الحقيقية الواقعية بهذه القرية الافتراضية والتي بأي حال من الأحوال لا يمكن أن تغنيك عن محيطك الواقعي اجتماعياً ونفسياً وثقافياً ومادياً..

لا سيما أنها ستبقى كما أسماها القائمون عليها عالماً افتراضياً فيه الكثير من الحقائق والوقائع الغائبة، كما أنها تقدم لك مرتادي هذا العالم الافتراضي بصورة بعيدة إلى حد ما عن حقيقتهم لسهولة ارتداء الأقنعة وتزييف الشخصيات، فأنت في واقع الأمر تتعامل مع طيف واسع من شرائح المجتمع الافتراضي يصعب عليك تمييز الصالح والطالح فيه.

ومن حيث إن هذه العولمة لها جوانبها المتعددة الثقافية منها والسياسية والاقتصادية والاجتماعية فإننا كمجتمعات محافظة أكثر ما نواجهه من أخطار هذه العولمة الخطر الثقافي الذي ينعكس سلبًا على خصوصية ورقي مجتمعاتنا وأقول رقي مجتمعاتنا لما تتمتع به من رحمة وتعاطف وتكافل وتماسك واحترام، ولعل أبرز عناصر التهديد الثقافي يكمن في استمراء كل محتويات العالم الافتراضي بحلوه ومره وما يفرزه لنا من شخصيات هزيلة فارغة لا تقدم أي مفيد أو نافع إلا أن وله الشهرة والأضواء جعلها تفعل أي شيء وتقدم أي شيء حتى وإن كان مثيراً للاشمئزاز ولا تقبله النفوس ولا العقول بما يحويه من سفاهة وسخافة وتفاهة في سبيل الوصول لهذه الشهرة الخداعة .

وفي حقيقة الأمر فإنَّ هذه خصوصية فكرنا ورزانة فعلنا الشخصيات التي اقتحمت ورصانة كلماتنا تنتهج في بعض أفعالها إسقاط الرموز الفكرية والأدبية والثقافية بتشويه ممنهج وإساءة بالغة وتعتمد في ذلك على تكرار المعلومة الخاطئة مرات عدة حتى تأخذ لها مكانا في عقول الأجيال الناشئة التي لم تعاصر هذه الرموز ومن ثم يطبقون على هذه الأجيال بتلميع طويل وأن هناك أيدٍ خفية تقف رموز وشخصيات أخرى وراء هذه الخروقات. يأخذ التقليد الأعمى لهؤلاء مأخذه ونجد أنفسنا بين ليلة وضحاها وقد اتخذ أبناؤنا من هؤلاء قدوة ومثالاً يحتذى به.

كل ما أسلفت من شرح يدل على أن ما يجري اليوم من خرق صريح لثقافتنا وبنيتنا المجتمعية التي تشكل الأسرة عمادها الأساسي ليس وليد الصدفة وإنما نتيجة لتخطيط عميق ومستمر لسنوات طويلة وأن هناك أيدٍ خفية وراء هذه الخروقات.

إذن ما الجديد السلبي الذي أحدثه عالم الإنترنت داخل الأسرة والعائلة؟

الجواب يكمن في تشتيت الرؤى والأفكار حتى أن ما كنَّا نعتبره بديهيا في أسرتنا وعائلتنا أصبح مطروحا للنقاش، كبِرِ الوالدين مثلاً أو تعاضد الإخوة وتزاورهم وحب الأقارب والتواصل معهم.

رغم سهولة التواصل واستخدام الهواتف الذكية لجمع الشمل وتقريب البعيد من الأهل والأصدقاء إلا أن إرادة التواصل في مضمونها انخفضت لمستويات قياسية. لذا علينا أن ندرك أن هذه الأيدي الخفية التي تقف وراء كل هذه المعمعة من إمبراطوريات الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي لن تعدم وسيلة ولن تدخر جهدا في سبيل الالتفاف على يقظتنا، وإنكارنا لهكذا ترهات فقد أغرقت شاشات هواتفنا الذكية بالكثير من هذه السفاسف واستطردت بدنو ودناءة هذه المحتويات حتى أننا وجدنا محتويات الأمس أقل سوءًا واستهجانًا من محتويات اليوم فبدا لنا ما كان بالأمس عاديا وبسيطا مقارنة بمأساة اليوم وبهذه الطريقة الخبيثة استطاعوا أن يشتتوا جهود القائمين على التصويب والتقويم من أصحاب الفكر النير والأقلام الصادحة بالحق من دعاة ومفكرين ومثقفين، وفي هذا الصدد لا بد لنا اليوم أن نغير الصورة النمطية للمثقف العربي، الصورة التي تجسدت بالرجل الذي يحتسي قهوته في أحد مقاهي الحي ويقلب جريدته ويضع قدمًا على قدم، فالمثقف اليوم ومن مقتضيات العلم والثقافة عليه أن يواكب ما يجري في عصره من مستجدات ويستشعر الأخطار التي تحيط بمجتمعه لينبري للتصدي لها بذات الوسائل والطرق.

ومن الأخطار الثقافية أيضا انحسار دور المكتبات ومعارض الكتب بعد توفر المعلومة الرقمية في جميع الأوقات على مواقع الإنترنت، ذلك أن تلك المكتبات نجلس فيها لنقرأ بعض الصفحات لم تكن فقط سوقا للورق أو مكانا بقدر ما كانت ملتقى ثقافيا لنهل الأدب والعلم يلتقي فيه رواد المكارم والأخلاق وإذا ما أتينا على ذكر الواجبات والمهام فإنَّ التصدي للحملات الفكرية والثقافية المشبوهة لا يقتصر على المثقفين والمفكرين وأصحاب الأقلام فقط وإنما بحاجة لتكاتف الجميع من مؤسسات حكومية ومنتديات فكرية وثقافية إضافة لدور العبادة والمدرسة والجامعة والأسرة، فجميعنا مستهدفون بهذه الحرب الفكرية ومواجهة هذه الحرب تكون بالفكر أيضًا فنحارب الفراغ والتفاهة بالمعلومة الناضجة والمفيدة ونحارب الانحلال الأخلاقي بنشر الفضيلة ومكارم الأخلاق ونواجه التعديات على ثقافتنا وعاداتنا بالتمسك بهذه الثقافة وهذه العادات ونشرها بكل ما نستطيع من قوة، ومن هنا فإنَّ المؤسسات الحكومية لابد وأن تسارع بوضع آلية لمتابعة هذه البضائع الفكرية الفاسدة لحماية عقول وقلوب المستهلكين من الفساد ولا بد للأسرة من وضع أبنائها تحت الرقابة الناعمة التي لا تجعل من أبنائهم مجرمين معرضين للمداهمة وإنما ورودا جميلة فلا تُسقى إلا بالعذب الطاهر، وأما رجال الدين والوعاظ فهم صمام الأمان وهم المرشدون فليذكرونا دائماً بأهمية العلم النافع ومكانته العظيمة وأهميته الرفيعة بالنهوض بنا إلى مصاف الدول المتطورة.

أما وقد منَّ الله علينا بالكثير من المفكرين والباحثين والمثقفين فالواجب إعطاؤهم قدرهم ومكانتهم ومنحهم ما يستحقون من منابر في الإعلام ليكونوا معنا جنباً إلى جنب يضيئون لنا الدرب ويكونون القدوة والمثل في نشر الفضيلة والحكمة والعلم النافع. فالنجاة من مخاطر الفساد والانحلال لا تكون بالانزواء والانغلاق على أنفسنا، ولا يمكن قطعاً القول إن كل ما تجلبه لنا العولمة ضار وفاسد وإنما نحن أمام سوق عالمية كبيرة وضخمة جداً وعلينا أن نتخير لأنفسنا ما يليق بنا من الرفعة والرقي والتنزه عن السفاسف والترهات، ودورنا جميعاً أن نشرح لهذه الأجيال التي هي أمانة في أعناقنا عن مفيد هذه السوق وضارها.

وأخيراً أقولها لكل مستخدمي الهواتف الذكية ورواد مواقع التواصل الاجتماعي إن كل من هم حولنا بحاجة لحديثنا واهتمامنا وضحكاتنا ومشاعرنا الطيبة والتعبير لهم عمَّا بداخلنا من حب وود واحترام وعالم الإنترنت فضاء كبير وواسع ومفيد إذا ما استخدمناه استخداما صحيحا ونافعا، وهو بذات الوقت يهدم قيمنا وأخلاقنا ومجتمعنا إذا ما أسأنا استخدامه.

اغمروا من هم حولكم من أبناء وإخوة وأهل بالعطف والحب والاهتمام فلا تحرموهم لذة قربكم وليجعل كل منَّا لنفسه فسحة جميلة يبتعد فيها عن عالم الإنترنت ليعيش عالمه بين أحبته.

تعليق عبر الفيس بوك