جنودٌ مجهولون

 

نور بنت أحمد الشحرية

 

هو لم يُكرم يومًا على منصّة الأحرار لكنه عاش طوال حياته كريمًا حُرًّا..

كان كل همّه أن يُرضي ربه، وأن يرى أولاده يعيشون حياة شريفة.

صارع أمواجًا من الرغبات والأهواء، وجازف بالكثير ليحتفظ بكرامته.

وبات كثيرًا وهو جائع..

لم يرتوِ يومًا من زخات الأيام...

نطق حقًا في زمن الخداع والخذلان.

أشهر سيفه في زمن الغدر والجُبن..

وحمل بندقيته في معترك الحياة..

ابتسم في وجه الشدائد وترك خلفه تاريخا من الشهامّة..

تاريخًا من الرجولة... والعزم....

ورحل عن هذه الدنيا بعد أن شيّع جنازته أصحاب قريته البسطاء وأولاده.

ولم تكتب الجريدة في الصباح سطرًا واحدًا تنعي فيه شخصه المفقود.

ولم يعلن الحداد عليه ولم تنكس الأعلام لفقدانه كما هو الحال حين يموت ملوك الأرض ووجهائها.

ولكن وحده الله يعلم بتلك الروح النقيّة التي صعدت إليه.. وحسبه ذلك..

هي لم تقرأ يومًا جريدة ولا مكاتيب..

لم تحضر تجمعًا نسويًا أو مُنظمة لحقوق النساء..

لم تعش فترة المراهقة ولا حتى الطفولة..

حياتها كُلُها صراعات منذ الصغّر...

حملت هم أن تبني جيلًا صالحا.. جيلاً لا يُعاني مثلها ولا يعيش همومها..

وبينما كانت تضع مولودها الصغير،، يبكي آخر على حضنها فتضعهم جانبًا لتصنع لهم الطعام وتحكي لهم حكاية المساء الحالمة..

ونسيت أن حكايتها هي أطهر الحكايات وأجمل الروايات..

حكايتها أجمل من قصة السندريلا التي كابدت الشقاء والضيم..

ومعاناتها أعمق من رواية بائعة الكبريت التي باعت الدفء وماتت بردا..

ما تزال تجاعيد الزمن على وجهها تحكي تاريخًا من المعاناة.. وأيامًا من القهر والحرمان..

أصبحت جدّة ومازالت تحنُ على الحفيد ومازال وجودها يبارك كل ما حوله...

هي أيضا لم تُكرّم يوماً كنساء الأرض وأميرات الكون، والحقيقة أنها هي من صارعت محطات من الحرمان والغربة، وكابدت من القهر أزمان، وهي وحدها من تستحق لقب الأميرة ولقب الأسطورة، والمرأة المثالية.

هؤلاء جنودٌ مجهولون ثبتوا في المعاناة لنعيش نحن اليوم ولم يلقوا حفاوة ولا تكريماً كما يلاقي أصحاب النفوذ والأبطال البارزون في الساحة لأنهم جنودٌ مجهولون..

أدوارهم الكبيرة كلها خلف الكواليس.

وأجسادهم الطاهرة كانت ترسًا لنا يحمينا، ومازال صيتهم وتاريخهم يحمينا، ويقوينا.

قلوبهم الصابرة تغلبت على كل الليالي العصيبة الطويلة من أجلنا...

وأحاسيسهم المرهفة ما تزال إلى اليوم تلهمنا..

لو بحثنا حولنا لوجدنا الكثير منهم..

الجنود المجهولون هم آباؤنا وأمهاتنا وأجدادنا وإخوتنا، وصحبتنا..

منهم من فارق الحياة بهدوء ومنهم من لايزال يعيش ذلك الدور المجهول بصمت..

يزرعون زهورًا على دروبنا لننعم نحن.

نعيش الحياة بألوانها بينما يصارعون هموم الأيام الباهتة..

يبتسمون في وجوهنا حتى نحب الغد ونراه جميلًا مُشرقًا..

يُكابدون آلام الماضي ومعاناة الحاضر ولا نشعر بهم..

إليكم أيها الجنود المجهولون.. إلى قلوبكم الكبيرة تقديرًا بحجم هذه السماء.. وحسبكم ربُ السماء.

تعليق عبر الفيس بوك