"بعدِك ما شفتي شيء"!

 

 

رُبا بنت جمال الشنفرية

طعم غير تقليدي شعرت به مع أول رشفة من فنجان قهوتي عندما كنتُ أستمعُ إلى "فضفضة" صديقتي التي لم تعد كما عهدتها من قبل!

هي فتاة مُجتهدة ومُثابرة في كل مجالات حياتها العلمية والعملية.. إنسانة بشوشة ومرِحَة تملك قلبًا ناصع البياض كلون بشرتها، وتحظى بقلب زاخر بالنوايا الطيبة الصادقة تجاه الآخرين. كثيرًا ما كنت أوجه لها اللّوْم وأُخبرها أن الطيِّب لا مكان له بين ظهرانينا في هذا الزمن وأننا لا نعيش في المدينة الفاضلة التي تخيّلها أفلاطون قبل آلاف السنين! لكنها كانت ترد عليّ رد الواثق فيما يقول، مؤكدةً أن الله وحده يعلم ما في القلوب، وهو خير حافظ لعباده، يحميهم من أهل السوء والشرور، ما دامت تلتزم تقوى الله وتحفظ احترامها لذاتها وتراعي الآخرين وتقوم بوجباتها.. هي تؤمن أن الخير لن يجلب إلّا خيرًا.

تقول صديقتي وقد بدت عليها ملامح الحسرة والألم: "لم أكن أعلم أن الخير قد يُرد عليه يومًا بالشر، ولم أتخيّل أن النيّة الحسنة ستُكافأ يومًا بالظلم، ولم يخطر لي ببال قط أن أمد يد العون فتُكسر"!

جاوبتها بقلقٍ وحيرة من هذه الطلاسم غير المفهومة: "ماذا بك يا صديقتي؟ لِمَا كل هذا الحزن وخيبة الأمل؟!".

ردت وعلى ملامحها الغضب: "اجتهدت وسعيت لأجد مكان عمل أفضل فيفتح لي آفاقًا أكبر وتزيد معرفتي ومهاراتي وأُطوِّر من نفسي في مكان مميز.. سنحت لي الفرصة وأقدمت على العمل في وظيفة أكاد أجزم أن من حولي يحسدونني عليها إلّا أن قلبي لم يكن مُطمئنًا منذ اليوم الأول، وتوالت الأحداث..".

قلتُ: ما الذي حدث؟ يبدو أن الوضع مأساوي!

أجابت بصوت مبحوح ودمعة حبيسة العين: "نعم.. لم أستمع لقلبي؛ بل طبّقت ما قاله عقلي تمامًا، فقبلتُ الفرصة وبدأتُ العمل إلّا أنّني صُدمتُ بأن ما قرأته وسمعته عن بيئة العمل السامة لا يساوي 1% ممّا عاصرته بنفسي".

منذ أول يوم قابلني أعضاء الفريق بابتسامة صفراء سامّة وباردة لا تُعبِّر عن أي حفاوة صادقة، وكانت هذه أول مرة أشعر فيها بتوجس وعدم ارتياح. ومن العجيب أنه مع مرور الأيام، كانت تتردد على مساعمي مقولة غريبة للغاية، تعكس مدى سوء بيئة العمل تلك، إذ تكررت عبارة "بعدك ما شفتي شي"!

ظُلمت.. قُهرت.. استُهدِفت، لاقيتُ أشد أنواع الأذى وأسوأ مظاهر قلة التقدير والاحترام، وأشنع الافتراءات، وأقسى إجراءات التهميش، والترهيب من اقتراف الأخطاء، والعمل تحت الضغط اللامتناهي في كل لحظة، كل هذا فقط لأنني كنتُ مجتهدةً ودؤوبة مُنذ بداياتي، وحزتُ على إعجاب الإدارة منذ الأيام الأولى... هكذا تؤكد صديقتي وأنا أستمعُ إليها بآذانٍ صاغية.

وحسبما تقول صديقتي الطيبة: سُرعان ما انقلب الحال وأصبح كل ما يُلقى على عاتقي هي الأعمال المنهكة جسديًا وذهنيًا، لم أجد من ينصفني من كيد الزملاء، لا إدارة موارد بشرية ولا مسؤولًا إداريًا في أي من المناصب بهذه المؤسسة؛ بل أغلق الجميع بابه في وجهي، ولم أجد فيهم من يُحق الحق، والأنكأ أنهم اتهموني بأنني المُذنبة، وأنه من غير المنطقي أن يشكو موظف جديد في بداياته ويكون هو صاحب الحق!

تواصل صديقتي الحديث: أدركت أنني في بيئة عمل سامة ومشؤومة آرى فيها يوميًا من يتملص من العمل، من يسرق مجهود غيره، من يسيء لزميله ولا يمكن للآخر الحديث أو التعبير خوفًا من الأذى وانقطاع الرزق، من يشتكي بشكل مستمر، من يتغيب بعذر وبدون عذر، من يتعرض للتهديد بالفصل والإنذارات يوميًا، ونشهد شهريًا استقالة تلو الأخرى.

أكملتْ وهي تعبث بملعقتها في كوب القهوة قائلة: أنا لا أشعر بالأمان ولا أثق بأيِّ فرد هنا؛ فالجميع غدّارون وأشعر أني أرى طموحاتي وخبراتي وشهاداتي وأحلامي تتبخر أمام عيني علمًا بأنني لم أتوقف يومًا عن الاجتهاد في إيجاد الحلول وكلما حفزت نفسي ذاتيًا احبطتني كلمة ( بعدك ما شفتي شيء!).

كيف لي أن أواسيها في وضعها؟! فهي تحارب لوحدها من أجل أحلامها ولازالت لم تجد بصيص أمل هل يا ترى ستستطيع الصمود؟

أخبرتها أنها بطلة وقوية، وأنه دائمًا ما يتعرض الأقوياء لأذى ضعاف النفوس، وأن دعوة المظلوم أقوى من أي فعل، وأنها ستنتصر سواءً قررت إكمال هذه التجربة أم قررت إنهاء هذا الفصل من حياتها؛ فالنجاح لم يوُلد إلّا من رماد الفشل.

ردّتْ عليّ قائلة: لا تقلقي يا صديقتي أنا على يقين أنني سأكرر لهم في النهاية عبارة "بعدكم ماشفتوا شيء"! في جميع الأحوال.

تعليق عبر الفيس بوك