المنافع الاجتماعية.. بين الغني والفقير

 

د. محمد بن خلفان العاصمي

جاءت منظومة الحماية الاجتماعية كأحد مستهدفات رؤية "عُمان 2040"، وقد ورد في الأولوية الرابعة (الرفاه والحماية الاجتماعية) أن تحقيق حماية اجتماعيـة متكاملة؛ موجهة للفئات الأكثر احتياجا لتمكينها من الاعتماد على الذات، والمساهمة في الاقتصاد الوطني، هو أحد المستهدفات الرئيسية في هذه الرؤية، وقد حرص جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- أعزه الله- حرصًا كبيرًا على أن ترى هذه المنظومة النور بشكل سريع وعاجل وأن تُلبي طموحات المواطن وكل من يعيش على هذه الأرض، وأن تكون عونًا لأبناء سلطنة عُمان في مواجهة الدور المنتظر منهم مستقبلًا ومساهمتهم المرجوة في صنع المستقبل.

صدر قانون الحماية الاجتماعية ليمثل حقبة جديدة ومنجزا من منجزات النهضة المتجددة، ومع صدور هذا القانون بالمرسوم السلطاني 52/ 2023 وحتى قبل صدوره كان حديث النَّاس لا يتوقف عما سوف يحمله من خير لهم، وما سوف يحققه من طموحات ينتظرون تحقيقها، وهو أمر بديهي في كل أمة تسعى إلى أن يكون الإنسان قبل كل شيء، وأن التنمية ترتكز عليه كمحور أساسي تقوم على أركانه باقي المرتكزات، وربما مع صدور القانون زاد الحديث حول تفسير محتواه وتطويع مفرداته التي بدأت للكثيرين غامضة، ومن أجل فهم أكبر تطوع العارفون بالقانون ومفرداته واجتهدوا لتفسيره وتبسيطه ومنهم من أصاب وأكثرهم من أخطأ، وهنا في هذا المقال لا مجال للحديث عن هذا الجانب، بل إنني سوف أذهب إلى أمر أراه جديرا بوضع وجهة نظر خاصة لعلها تكون بابًا لفهم أعمق حول مقاصد هذه المنظومة.

المنافع الاجتماعية التي جاء بها القانون تمثل نقلة مُهمة في إطار الرعاية الاجتماعية للأسرة والفرد على حد سواء، وهي المكونات المجتمعية التي يجب الاهتمام بها والحرص على تقديم ما يجعلها قادرة على أداء أدوارها وواجبها التنموي، ومن ضمن المنافع التي أقرها قانون الحماية الاجتماعية أجد أن منفعتي الطفولة وكبار السن هي الجديرة بالنقاش والطرح؛ فالحديث عنها ظل مستمرًا وما زال كونها تحتمل وجهات النظر والجدال والإثبات والنفي، فعملية تعميم الخدمة هي أمر مقبول لدى فئة مجتمعية ومرفوض لدى الأخرى خاصة عندما نقف عند مفترق الطريق بين الغني والفقر، وعندما نلامس الخط الفاصل بين من يستحق ومن لا يستحق، وهذه الخطوط والمحددات تشكلها كثير من القناعات ووجهات النظر والتجارب والخبرات ويبقى باب الخلاف فيها قائمًا وبديهيًا.

إنَّ النظر إلى الخدمات المُعمَّمة كالتعليم والصحة والنقل والإسكان والبلديات من منظور متوازن وأنها حقوق لجميع المواطنين لا يجعلنا نشك للحظة واحدة أن الجميع سواسية، ولكن عند  النظر للمنفعتين (كبار السن والطفولة) من هذه الزاوية يجعل الأمر يبدو غير منطقي وغير منصف لدى الكثيرين، رغم أن ذات القانون أوجد منافع خاصة أخرى للأسر محدودة الدخل وذوي الاحتياجات، وهذا أمر قد يكون طبيعيًا؛ فالفقير ليس كالغني في حاجته وظروفه ومُعاناته، ولا يمكن بحال من الأحوال اعتبار أن هذه النظرة قاصرة وغير منصفة ولا يجب وضعها في مقابل الخدمات الأخرى التي تقدم للمواطنين على حد سواء فهل هذا الحكم صحيحاً؟!

تعددت وجهات نظر العديد من المتفاعلين مع قانون الحماية الاجتماعية وأكثر الجدال كان حول هاتين المنفعتين واللتين لم تراعيا مبدأ الحاجة من عدمها لدى عامة الشعب- حسب رأيهم- ويرى البعض أن عدم مراعاة مستوى الدخول للأفراد في هذا الجانب جاء مجحفًا، وأن نظام المساواة طغى على قيمة العدالة المجتمعية، وانطلقت وجهة النظر هذه من زاوية هامة تمثلت في فلسفة التعميم التي وجد البعض أنها ذريعة سهلة للحكومة في مقابل سد باب البحث والتقصي عن الحالات المستحقة، هذا الأمر أثار الكثير من الجدل، لكن هذا الطرح لم يكن جديدًا، وقد أجاب عليه الفريق المكلف بوضع المنظومة مرات عديدة وكانت إجابتهم مقنعة للكثيرين، فقد أثبتت أنظمة الحماية التي اعتمدت على دراسات الحالة أن نسبة الوقوع في الخطأ عالية جدًا مقارنة باعتماد العمر كمحك أساسي لاستحقاق المنفعة، وحسب ما نسمع من حديث هامس، فإنَّ التجارب التي نراها ونلاحظها هي موجودة بالفعل وأن هذا الخطأ حاصل بالفعل، ولا مجال لتكرار تجارب سابقة في أي مجال كان، وقد فشلت العديد من أنظمة الحماية نتيجة عدم دقة وكفاية المعلومات وقصور أنظمة الرصد وصعوبتها خاصة في الدول ذات الكثافة السكانية العالية أوالتضاريس الصعبة أو المساحات الواسعة والمناطق المأهولة غير المعروفة.

إنَّ كبير السن والطفل مهما كان مستواه المعيشي فهو عمليًا يحتاج لمن يعينه في حياته، ولا يمكنه الاعتماد على نفسه غالبًا، وهاتان الفئتان هما الأكثر تقلبًا في الأحوال والاحتياجات، وعندما تقوم الدولة بواجبها نحوهما من الواجب علينا أن نساند هذه التوجهات، وأن نشدد على ضرورتها لهم، وأن ندعم الخطوات الأولى حتى تستمر وتتطور وتنمو مع الزمن.

في المقابل يقول الله تعالى "وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ"، وهنا يجب على الغني القادر الذي يجد ما يكفيه ويعينه على الحياة وزيادة أن يترك هذه المنافع لمن يستحق أكثر منه، ولذلك جاء التسجيل في هذه المنافع خياريًا لمن أراد، وهنا يجب على الفرد أن يعلي قيم الإيثار والقناعة والصدق وأن يترفع وينأى بنفسه عن أخذ منفعة يجدها مستحقة لفقير ومحتاج ومن لا يجد معيلًا، وأن البعد الإنساني يتجلى في قدرة كل فرد على الاختيار وتحديد ما يحتاج له وما يحتاجه غيره، ومبادرته من تلقاء نفسه دون أي توجيه في تغليب إنسانيته ومبادئه الدينية المستمدة من الشريعة السمحاء والمنطلقة من ثوابت جاء بها هذا الدين الحنيف ليسود العدل بين النَّاس، وهذه دعوة للقادرين والأغنياء بأن يستعففوا ويؤثروا المحتاجين والمساكين ومن لا يجدون من يعيلهم، ففي هذا الأمر خير للبلاد والعباد، والله من وراء القصد.

تعليق عبر الفيس بوك