الطوفان نَبه الوَسنان

 

 

ماجد المرهون

MajidOmarMajid@outlook.com

 

إننا نُدرك بوعينا المعتاد استنكار إلقاء الأحكام التقويميةِ علينا، وهو أمر يرفضه الإنسان في الظروف الطبيعية المأنوسة؛ بسبب ركاكة الإحاطة التامة بحيثيات المكابدة التي خبِر عُسرها من أُلقيت عليه تلك الأحكام، وإن كان المُحكِّم أو الناصح مُلمًّا بشيءٍ منها بيد أن الأحوال تختلف من شخصٍ لآخر، ويتباين تأثير وقعها حتى مع التشابه الظاهر لنفس المعاناة، والإنسان يكره من يُصدر عليه حكمًا نهائيًا بالملامة؛ إذ إن معظم هذه الأحكام تستند إلى إدانة الوقائع الظاهرية منها وليس الضمنية الباطنية، كاتهام أحدهم لآخر بسوء النِّية حيال أمرٍ ما ثم إلقاء حكمًا مباشرًا علية بالاستناد إلى غيبيات النوايا.

يظن الإنسان بغروره أن أناته الواعية هي المتحكمة بدفة القيادة والتوجيه وتمسك بزمام الأمور بثقةٍ واقتدار، بينما تقبع في حقيقتها على طرف المفازة البعيد عن مركز التحكم وتتخذ لنفسها مجلسًا قصيًا في تشكيل وعيه المسيطر على المدى الطويل، والواقع أن الذات اللاواعية هي ما يشكل المركز الفعلي للتحكم، والتي تبني شخصية الإنسان منذ مراحل نموه الأولى وهي من يصنع ذاته الواعية التي يعتقد عبثًا بسيطرتها؛ وذلك من خلال ما يعايشه ويسمعه ويراه ويتعلمه بحسب الممارسات الصغيرة والكبيرة المستمرة دون انقطاع، وبحسب المعيارية السائدة في مجتمعه على الصعيد الدراسي والفكري والديني والثقافي والإعلامي، وقد تُصدم هذه الأنا الواعية المغرورة إلى حدٍ ما بحقيقة مختلفة تنبهها بما هي معتقدةً أو مقتنعة به كاعتناق أحدهم للإسلام مثلًا ليكتشف الوهم الذي كان متخبطًا بين جدرانه طيلة سنينٍ ماضية من اعتناق أسئلة لا جواب لها، أو جواباتٍ ملتوية بالغة التعقيد تفضي بالمسؤول إلى نفاق التجاوب والسائل إلى التثاؤب.

إنَّ الحقيقة واضحة جلية للمسلمين في كل مجتمعات العالم، لكنها غائبة عن غير المسلمين في المجتمعات الغربية بسبب قناعتها التامة بأناتها الخادعة إذ تشكلت الذات اللاواعية لديهم على مدار مئات السنين من تزييف الحقائق وتغيير الوقائع ونالت الوعي العام للمجتمع وطالت المناهج الدراسية ونظم وأساليب التعليم، مدعومة من الإعلام الموجه من ثلةٍ عليمةٍ مسيطرةٍ على دفة القيادة وتعمد إلى تسييرها بنفس النهج الخفي مع ضمان استمراره وبقائه، ولكن تُصدم تلك المجتمعات عندما تكتشف في عدة أيام حقيقة ما قام به خبراء الكذب والتضليل لأكثر من 75 عامًا.

لن تستفيق تلك الذات التي تعتقد بصلابة موقفها من خدرها إلا بصدمة صارخة توقظها من وسنها وما تحياه من غلواءٍ وغي، وفي المقابل ستكون صدمة عكسية تودي بصاحبها إلى الكره والحقد وربما الانتقام، وهو فعلا ما وقعت فيه السياسة الإعلامية الغربية التي تُقنن عمادتها ضلالات الصهيونية، رغم كل جُدر الحماية ومحاولات الغربلةِ والانتحال والتلاعب والتلفيق؛ وقد لاحظنا الثورة الضارية لتلك الشعوب وبشكل يدعو للغرابة عند الجاهل بحقيقة الأمور أو المشوش الذي يلقي بأحكامه السريعة المبنية على الوقائع الظاهرية، وإجماع معظم العامة على التصدي بحزم لمحاولات التضليل الجديدة المصاحبة للأحداث في غزة؛ حيث لامس الأمر الوقائع الضمنية الباطنية، مما دفع بحكوماتهم سريعًا لسن تشريعات جديدة تمنع التعاطف مع الفلسطينيين والمقاومة، ولم يجد كل ذلك قبولًا على المستوى الشعبي بعد أن اتخذت أفعال الكيان المحتل خرقًا سافرًا لكل المعاني والمفاهيم الإنسانية، ومن هنا اشتعلت شرارة التنبيه للذات الواعية لدى المجتمعات الغربية الغارقة في محيط الأوهام والسابحة في خضم الساسة والإعلام، ولن يوقف انتشارها شيء بعد انكشاف الحقيقة.

فمارست الحكومات الغربية منذ ستينيات القرن الماضي سياسة إبقاء شعوبها تحت مسكنات إعلامها غير النزيه، وإن حاول حقن بعض جرعات المهنية على مَشاهدهِ الظاهرية من ناحية تقعيد حرية التعبير وأهمية الرأي الآخر، إلا أنها جرعات مقننة ومحسوبة بتقنية عالية لضمان عدم استثارة الرأي العام، ولكن يبدو أن تلك المعايير اللاأخلاقية قد فرطت من أيدي حراس بوابات القنوات الإخبارية العريقة مع الأحداث الجارية بغزة، وفي ظل وفرة تطبيقات مواقع التواصل وتنافسها المحموم.

صحيح أنَّ تلك الشعوب ليس لها من أمرها شيء سوى الكلام والاحتجاج أو تظاهرٍ ضعيف التأثير لا جدوى منه حسب اعتقادنا العربي وثقافتنا العامة، لكنه ليس كذلك في الثقافة الغربية وقوانينها، بل إنَّ أكثر ما يخيف حكوماتهم ويرعبها هو تأجج الرأي العام الداخلي وانعكاساته التي ستطال كل السياسيين وبالطبع سيعود الضرر على مصالحهم ومكاسبهم؛ وما إن بدأ الرأي العام بالانتفاض قليلًا من تخديره الطويل حتى تغيرت لهجة قياداتهم وكبار ساستهم فوريًا، ودخلت كلماتٍ جديدةٍ كانوا يعتقدون بكبرهم وغرورهم أنها ذات طابع يشي بالضعف أو الخضوع، تقلبت آراؤهم على جمر القلق يمينًا ولهيب التوتر يسارًا حتى استوت بعد شهر من نيران القتل والتنكيل وباتت تميل إنسانيًا إلى الأبرياء مع ميول الملايين المتظاهرة وما كان ذلك ليحدث لولا أنهم استشعروا الخوف، وعلى كل حال فإن المستقبل المهني لكل القادة السياسيين المتورطين في التعاطف مع جرائم الكيان المحتل لم يعد ينظر له بموثوقية كما كان قبل 7 أكتوبر.

لقد وقع الغرب بشقيه في الغرور العام بحسب ما حققوه من مكاسب دنيوية ورفاه، مع أن ما يقومون به الآن ما هو إلا من الأعمال الحسية وبمقدور كل من أوتي علمًا عقليًا الإتيان بتلك الأعمال ولن تستعصي عليه؛ لذلك يقف كل العالم الغربي وقفة رجل واحد في وجه التقدم العلمي للشعوب وخصوصًا الإسلامي، حتى وإن أظهروا جوانب سطحية من الدعم المالي المباشر والتعاون المادي في مناحي الاقتصاد والصحة والزراعة والبيئة وغيرها، لكنهم لن يُقدموا على الدعم الصناعي المتقدم وسيستلون نصالهم ضده بندية صلبة؛ لأن ذلك عمق تنافسي من شأنه تشكيل حضارة جديدة تُهمش حضارتهم وتُضعف سيادتهم وتُفقد مصالحهم وتُفقر شعوبهم.

ومع كل ذلك، فإن التأثير البنيوي على مستوى الإرادة الحرة لا يمكن تغييره وسوف يتبين الحق فجأة أو بعد حين جراء موقفٍ أو حدثٍ لم يخطر على بال كل مُشكك مستهين أو عارفٍ خبير مهما طال زمن التضليل والهيمنة والتحقير وأيًا كانت البيئة التي نشأ وتشكل وعي الإنسان الصغير فيها قبل الكبير، والحقيقة المشهودة في طوفان الأقصى أنه كشف الخيانات المتعددة والمكائد المترصدة وفضح النفوس الحاسدة والشخوص الفاسدة، وحرك المياه الراكدة في الأفواه الحاقدة ونبه العقول المتبلدة والأعصاب المتجمدة.