القرية العالقة (11)

حمد الناصري

 

قال أحمد لخاله حمود، وهُما يتماشيان عائدان من عند الحكيم سعيد :

ـ مَوقفنا صعب جداً ، قريتنا لتوّها تخرج من عُزلتها ومن انقساماتٍ كادت أنْ تُلقي بها إلى أحداث مُوجعة قاسية.. فالعودة إلى الماضي كمُحاولة إعادة ميّت إلى الحياة.؛ فالعُود الاخضر إنْ يَبس أو تيبّس لا يكون مُخضر ولا ناعماً بتاتاً .. أليس كذلك يا خالي.؟

ـ  نعم هو كذلك يا أحمد ، ولكن حقيقة اختلافاتنا الماضية أساساً تخلّقت بفعل أشرار الناس فازدادت الشقّة بين الرجال وتغيّرت الانفس الامّارة بالفِتْنة وتضاءلتْ مَسافات الافكار وتعمّقت الاختلافات وتباعدتْ الآراء ، واستحالتْ التفاهمات ،  وتكوّنت أزمة ، وتحزّب الاهالي وثارتْ ثائرة قَبَلية وتمرّد البعض وتفرّق ، وانقسمتْ القرية إلى طائفتين ، أحدها بدعم الأشرار ، تعمل على تفريق المُجتمع في السرّ ، أفعالها  طالتْ سواحل القرية.

قال كبير الخارجين عن المُختلفين :

ـ لن نَقبل بالأشرار في أرضنا، وليس بيننا مُرتد ولا مكان له في عقيدتنا، ولن نسمح لأحد منهم،  يُخالطنا ويُمزق نسيجنا الاجتماعي ولن نغفر لهم ما داموا يُخربون بُيوتنا بأيديهم ، يَقتلون رجالنا ويُجوّعون أهلنا ويَنهبون ثرواتنا  ، إنهم قوم  يُفسدون في أرضنا ، ولن نَسْعد بهم ابداً .

إلتفت إلى الرجال المُجتمعين وقد حملوا أسلحتهم استعداداً للمُواجهة:

ـ  إنّ المُقاومة هي الطريق الوحيدة لمحاربة الاشرار أينما ولّوا بوجوههم.. قاتلوهم بشراسة.. أُمّتنا الماجدة كانت يوماً مُولّدة للرجال الذين صَنعوا حضارة خالدة في الشرق والغرب وتسيّد بعضهم بحار بعيدة وانتشر آخرين في بقاع الارض.

قاطع أحمد خاله حمود قائلاً :

ـ ذكر جدي سعيد مرّة ، أنّ الرجال اختلفوا في تقاسم منافع القرية ، واستحال التوافق بينهم وكانوا المُسالمين أكثر الناس تضرراً جوعاً وموتاً وازداد تفشّى المرض في أرجاء مَعمورتهم للأسباب التي تعلمونها.

وحين انْفلت الأمان وتردّت الأحوال المعيشية ، خرج المُسالمون بحثاً عن الامان والاستقرار.

ذلك هو الواقع المُعاش الذي تحدّث عنه جدي سعيد.؛

ـ نعم .. أنا لا أختلف مع رأيه كثيراً .. لكن الأحداث يومئذ تقلّبت وفي ذلك الزمن تعذّرت سُبل الإئتلاف بين الجماعة الواحدة ، وانشقّت عن بعضها وسار كلٌ إلى حيث ما استقر عليه رأيه وفكره.

ولا يَخفى على أحد ، أنّ هناك أيادٍ خفيّة ، عمّقت  الاختلاف وتشدّدت الافكار وحين تحزّبت القبليّة ، ودافعت عن قناعاتها وأفكارها ، أصْبَحت جزءاً من ثوابتها .؛

ولا ريب ساءتْ الاحوال بين الناس وانتشر المرض بين الناس وفتكَ بهم في أسوأ الحالات قهراً ، ويسرّني أن أنقل لك ما قاله جدي الاسْعد عن ذلك الزمن.. كانت أيامنا عصيبة مليئة بالخلافات والصراعات ولولا أنّ أهل القرية وعُقلائها أرادوا لها الخير وإنقاذ مُجتمعهم من ويلات الصراع والانقسام، وقد خطب كبيرهم قائلا:

ـ كما تعلمون ، أنّ بحر القرية العالقة عميق ، وثروته الطبيعية لا تُقدر بثمن، خلدها تكوينها وتاريخ رجالها.

وقرأت مرة في سيرة تاريخية جمعتْ مؤرخين عرب وأعاجم ومحليين ، تحدثوا مُنذ سِنين خلتْ ، بأنّ زلزلة حدثتْ وأخذتْ جبال القرية ترتج بشدة ، واهتزت صُخورها الصّماء.؛ وانشطرت إلى جزئين وبين الصخرتين الكبيرتين اللتان انفصلتا مائَيْن ، أحدها ضحْل والآخر عميق.. ولم يُعرف حتى الآن تاريخ الزلزلة الاولى. إلاّ أنّه قد ظهر للماء العميق أوتاداً بارزة وتُربة غائرة ، عُرفتْ بجبال الذهب.؛

وفي رواية ورد ذكرها ، أنّ بحر القرية ،  انحسر منذ بعيد ، وانقسم إلى شطرين ، من راس الرملة جنوباً إلى أقصى البحر الكبير ومن الشمال ، من راس بحر الرملة إلى أقصى راس البحر العميق إلى اقصى الخور الغربي.

وأتذكّر رجلاً ، طويل القامة أخذ يُصفّق كُلّما تفوّهَ المسؤول بكلمة .. وعرّف أخيراً بنفسه.. أنا مدير الشركة المُنَفّذة ، وصوّب نظرهُ إلى الجمع ومدّ سبابته إلى عبدالله .. ما أستطيع القول والتأكيد لكم ، فيما يتعلّق بالتعويضات فقط ، تعويضات المساكن بصفتنا شركة مُنفذة .. أنّ الدار الجديدة التي سوف يستلمها كل شخص منكم كبديل عن دارهِ السابقة، بأنّها دار جديدة بمعنى الكلمة، تصلح إلى أكثر من رُؤية مُستقبلية.؛

قال رجل يقف إلى جانبه ، وهزّ رأسه.. صدق مدير الشركة ، احْمدوا الله على النّعمة، فكُنتم في بيوتٍ جُدرانها مُهشّمة، قوائمها مُحَطّمة، عِمارتها عشوائية مُتهالكة ، خربة أكثرها، ناهيك عن كونها مُعرّضة لأخطار الكوارث.

    أخذ المسؤول يَنظر في عيون المُجتمعين حوله وقال.. نحن ننقُل لكم تجربة ما حدث في قُرى قريبة مِنا من أجل أن نطمئنّ على مُستقبلنا جميعاً، سَعينا لإيجاد مساكن عصرية، تليق بإنسانيتكم، وكما يَعلم أكثركم بأنّ مُتغيّرات كارثية قادمة في مُدة زمنية لا نعلم تقديرها.. فالكوارث مَخاطر ومُعاناة للناس، آثارها مُدمّرة، لا نقول ذلك عبثاً ولا ضجيجاً ولكنّا نقول بكل جدّية وبلا هزل بأنهُ ليس مِن مَصلحتنا إبْعادكم عن قُراكم أو عن موطنكم ، لكنّا نُؤكّد لكم بأنّ القُرى الساحلية مَبانيها مُهددة بالزوال، وليس بوسْع أحد التنبؤ بحدوث الكوارث أو الاستشعار بالهزّات الأرضية.

ومن واجبنا حمايتكم وإبْعادكم عمّا يضرّكم ، من هنا عملنا على استغلال واجهات البحر لمنافع لكم ، وجَعْل سواحل القرية الطويلة حواضر للقرى غير الساحلية ولتكون تلك الحواضر أثراً باقياً في ذاكرتكم ونحن ارتأينا بأنْ تكون حواضراً تتناغم مع قِيَم المُجتمع .

وندعوكم، أنْ تنظروا إلى المَنفعة بعين وطنية،  فالوطن عِزّة  لنا ـ جميعاً ـ وكُلّ مَنفعة لا تُقدّم الوطن زائلة.؛

همس رجل، قصير القامة ضخم الجثة ، لـ عبدالله:

ـ لا تُصدقهم ـ يا عبدالله ـ  إنهم يكذبون، يَمتهنون الزيف باحترافية.؛ إنهم يُقَوّضون ما أسّسه الأوّلين من عِمارة.؟ ويَهدمون ما بَناهُ الأجداد بجراّفاتهم ويَحرقون الاخضر واليابس. أليستْ هذه منافع وطنية .؛ أم تلك تدابير لمنافع يتقاسمونها بينهم.؛

عندها نهض عبدالله غاضباً وقال :

ـ  الآن ، أدركتُ بأنها لُعبة خبيثة فاسدة ، مقاصدها تَجْتث مزارعنا وأراضينا، وتقتلع الحصون والقلاع والتي كان لها دورٌ كبيرٌ في حماية قُرانا الساحلية وما أسْوارها وأبراجها إلاّ شواهد تاريخية على عظمة الرجال وصلابتهم وعلى بَراعتهم في التشييد.؟ فكيف نُمكّنكم من تدمير كل ذلك.؟

هزّ أحمد رأسه بهدوء:

ـ اتفق معك ، سَنعارض رأيهم ولكنّا لن نَخلق حُزناً للناس ، فهل تتفق معي يا خالي.؛

**

    استوقفت أحمد كلمات تردّدت على مَسمعه ، وأخذ يُقلّب أفكاره يَميناً ويساراً .. مادّا عينيه بعيداً ،  وظلّ ساكتاً صامتاً.. وفي داخله حديثاً .. هل أبي رفض المشروع لأجل القرية العالقة ولمنافع ساحلها الطويل أم كان طامعاً في راس الجبل الأعلى وبحره العميق.؟!

 

      صوت الحكيم يُجلجل المكان.. إني لأراك رجلاً شَهْماً، صَلباً ذو عزم ، أتوسّم فيك الحكمة والفراسة .. فلا تتردّد ...كان عبدالله رجلاً اعتدّت به القرية ولم يذلّ نفسه وجماعته، كان شرف القرية ومَنبتها وسرّ قُراها الجبلية الصلدة، وساحلها الطويل وقُراها الصامدة.

  استدار نحو راس الجبل الأعلى وألقى نظرة عميقة ثاقبة.. شعر بشيء يخترق قلبه، ومَشهد موت أبيه عالقاً في ذهنه.

 

    أخذ يُحدّق في سماء القرية العالقة.. وعينه امْتَدّت إلى ساحلها، وتوسّعت حدقتيها عند راس الجبل.

 

تعليق عبر الفيس بوك