يوسف عوض العازمي
@alzmi1969
"ولما كانت بلاد ما وراء النهر لم تحظ بالعناية الكافية من قبل المعاصرين، ولم تنل حقها من البحث والدراسة؛ عزمت على التصدي للكتابة عن هذا التاريخ الكبير وألقي الضوء على جانب عظيم من جوانب التاريخ الإسلامي في تلك المنطقة العريقة في الإسلام". نادر الوثير
صدر مؤخرًا عن دار "آفاق" للنشر بدولة الكويت الطبعة الأولى لكتاب يتحدث عن تاريخ بلاد ماوراء النهر ويقصد بها بلدان آسيا الوسطى التي أستغلت أواخر القرن الماضي عن الإتحاد السوفييتي، الكتاب بعنوان: "بلاد ما وراء النهر.. من الفتح الإسلامي إلى الاحتلال الروسي"، لمؤلفه الكاتب الكويتي نادر الوثير، يضم الكتاب في ستمائة وستة وسبعين صفحة، معلومات مُهمة وحقائق عن تلك البلدان التي ندرت تغطيتها أو ذكرها في الإعلام. واحتوى الكتاب على مقدمة ثم لمحة جغرافية، ثم تمهيد، أتبعها بعشرة فصول مكثفة بعدها كانت صفحات المصادر والمراجع.
بداية الأمر، كنتُ قد قرأت كتابًا عن تلك البلدان منذ سنوات، وهو كتاب بعنوان: "الطاجيك في مرآة التاريخ" لمؤلفه إمام علي رحمان رئيس جمهورية طاجيكستان، وفيه قرأت نفوذ الحضارة الإسلامية في خراسان وماوراء النهر، وعن قيام الدولة الطاهرية، كذلك عن دولة الصفاريين ودورها التاريخي لإحياء الدولة والثقافة القومية لدى الطاجيك، وغير ذلك من الكتاب المفيد، من بعد هذا الكتاب لم أقرأ أي كتاب يتحدث عن تلك البقع البعيدة عنا جغرافيا، قد يكون السبب ولاشك تقصيري في متابعة المكتوبات والمنشورات بشأن تلك البلدان المهمة والتي لها اثرها الملموس في تاريخنا الإسلامي.
أعود للكتاب القيِّم الشيِّق، إن أردته من أدب الرحلات ففيه روح منها، وإن توقعت إنه كتاب تاريخ فهو كذلك، وللمفارقة فهذا الإصدار هو الأول للمؤلف المتخصص أكاديميًا في التاريخ، وهو إصدار يستحق العناء، لم يكترث المؤلف لصعوبة الأمر بكتابة تاريخ صعب الإبحار فيه؛ بل قدم كتاب يؤرخ ويقدم وجبة تاريخية مفيدة وممتعة في آن، سيما وهو الذي غاص في صفحات هذا التاريخ الغامضة أغلب معالمه، ولأجل ذلك ولتتويج جهد يتسم بمصداقية قام بأربع رحلات متفرقة لتلك البلاد التي تسمى ما وراء النهر.
وقد قدَّم الكاتب عدة أجوبة مُلِحَّة تتعلق بتلك المنطقة الغامضة على العالم العربي اليوم، وذلك من خلال العشرة فصول التي تضمنها كتابته، منها التعريف ببلاد ما وراء النهر المشهورة في التاريخ الإسلامي، وتحديد مدنها على الجغرافيا السياسية الحالية كمدينة بخارى وسمرقند وخوارزم وغيرها، كما قدم لنا تفاصيل جميلة عن الفتوحات العربية الإسلامية على بلاد ما وراء النهر ونشر الإسلام فيها، إضافة إلى استيطان القبائل العربية هناك، وذِكْرُ عددٍ كبيرٍ من الفقهاء والشعراء والأدباء والعلماء والفلاسفة الذين ظهروا من تلك البلاد، ونذكر منهم على سبيل المثال الإمام البخاري صاحب الصحيح والترمذي والدارمي وابن سينا الفيلسوف والفارابي وغيرهم، كما تضمن الكتاب عدة فصول مهمة منها الفصل الذي يتحدث عن الفاتح الشهير تيمورلنك، وفصل آخر يتحدث عن حكم ذريته، وهناك فصل مهم يتحدث عن نشأت القومية الأوزبكية التي تعد اليوم أكبر القوميات في آسيا الوسطى، فقد ذكر الكاتب إلى أي جنس ينتمون وأي مذهب يعتنقون، وما هي الدول التي أقاموها وما هي العمائر التي بنوها ولا تزال قائمة، وكيف استطاعت دولة روسيا العاتية أن تبسط سلطانها على هذه المنطقة العريقة.
في الصفحة الخامسة والسبعين من الفصل الثاني بالكتاب القيم أقتبسُ ما يلي: "رأى هشام بن عبدالملك صعوبة إدارة الأقاليم الشرقية، فعهد بولاية خراسان إلى نصر بن سيار الكناني، الذي أمتاز بسجايا فريدة من نوعها، فقد كان عالي الهمة، شديد الحذر، وميالا إلى العدل، والذي قيل عنه في حضرة الخليفةغ هشام بن عبدالملك: أنه أرجل القوم، وأحزمهم، وأعلمهم بالسياسة فقال هشام: هو لها، فقد كان نصرًا ذي صبر وعزيمة، كما أنه كان صاحب تجربة".
الكتاب رغم أنه المؤلَّف الأول لكاتبه، إلّا أنه جهد يستحق التقدير والقراءة، ومن المهم وجوده في مكتبات اقسام التاريخ بالجامعات، كذلك للمهتمين بقراءة وسبر تاريخ ماوراء النهر، والتعرف على حيثيات قد لاتوجد في مطبوعات أخرى، ولاشك هو إضافة مهمة للمكتبة التاريخية العربية، إنما الملاحظة الجديرة هي العمل على طباعة الكتاب كل فترة زمنية بحسب ما يرى ذلك الكاتب مناسبًا؛ لأن عددًا من الكتب القيمة الثمينة المعلومات طُبعت طبعة واحدة، وأصبح من النادر الحصول على نسخها، لولا النشر الإلكتروني الذي أنقذ الوضع في قليل منها.