دروس الماضي وحقائق الحاضر من "طوفان الأقصى"

 

علي بن مسعود المعشني

ali95312606@gmail.com

سَعَتْ الولايات المتحدة الأمريكية إلى استثمار اجتياح كيان العدو للبنان عام 1982 لنزع سلاح المقاومة وتصفية القضية الفلسطينية عبر تصفية منظمة التحرير الفلسطينية واجتثاثها من لبنان، بعد تصفية وجودها في الأردن عام 1970، وتحييد مصر من الصراع وإخراجها من معادلة القوة باتفاقية كامب ديفيد عام 1978.

ولم يقتصر الحلم الأمريكي على تصفية منظمة التحرير الفلسطينية؛ بل امتد إلى تصفية الحركة الوطنية اللبنانية الناشئة حينها، والتي كانت تمثل لهم الرديف المقاوم لمنظمة التحرير. وقد سبق ذلك الاجتياح خطوة تمهيد كبرى تمثلت في تغييب القامة الوطنية الإمام موسى الصدر عام 1978، وتلفيق تهمة تغييبه للزعيم الليبي مُعمر القذافي، ولم تكن هذه العملية بريئة أو عبثية من مخططيها؛ بل كانت عملية مفصلية تهدف إلى تفكيك الحركة الوطنية بتغييب رمزها وزعيمها، وتغييب الدعم الليبي السخي للحركة وغيرها من حركات المقاومة في لبنان. ويُعد اجتياح لبنان مفصلًا حادًا في تاريخ حركة النضال الفلسطيني، والذي أغلق الباب في وجهه بفعل انسداد الحدود المتصلة بجغرافية الأرض المحتلة بعد ترحيل قياداته ورموزه من لبنان بمخطط ورعاية أمريكية، وبمباركة عربية صامتة. لم يُعلن الأمريكي حينها عن مسمى لمخططه، لكنه تبين لاحقًا أنه ملمح لمخطط ما سُمي لاحقًا بـ"الشرق الأوسط الجديد".

لم يهنأ الأمريكي ومن خلفه الكيان الصهيوني طويلًا بمخطط تهجير قيادات منظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس، وشلِّ حركة نضالها من دول الطوق؛ حيث وُلدت حركات وفصائل مقاومة من رحم تلك المعاناة، تمثلت في حزب الله في لبنان وحركة حماس في فلسطين المحتلة.

عاد الأمريكي إلى ممارسة هوايته التاريخية في تمزيق الأمة العربية وتمهيد الطريق لقاعدته المتقدمة في قلب الأمة والمسماة بـ"إسرائيل" لتلعب دور الشرطي والسيد في المنطقة، بعد صهرها في جغرافيتها، والقبول بها قسرًا كمكون طبيعي عبر اتفاقيات إذعان تُفرَض على الأقطار العربية تباعًا تحت مُسميات السلام والتطبيع.

شاخ الحلم الأمريكي وشاخ معه الكيان الصهيوني وشبّت طلائع المقاومة جيلًا بعد جيل، لتحمل السلاح، وتُشكل محورًا وازنًا يؤرق العدو ويبعثر أوراق المخططات الغربية في المنطقة.

تبدَّد حلم ترسيخ الشرق الأوسط الجديد بعد استعصاء تمريره على محور المقاومة الذي قاومه بضراوة في مواجهات ملحمية بدأت حدتها في حرب يوليو (تموز) 2006، وبلغت أوجها وجذوتها في "طوفان الأقصى" المبارك في السابع من أكتوبر 2023.

يُمكننا القول اليوم إن طوفان الاقصى أطلق رصاصة الرحمة على مشروع الشرق الأوسط الجديد، وبدَّدَ معه عناوين فرعية وأحلامًا كثيرة، وقدَّم قضية فلسطين للعالم بقوة غير مسبوقة، وجعل من سلاح المقاومة مكسبًا لا يمكن المساومة عليه ولا التفريط فيه، ولم يكتفِ الطوفان ومن خلفه محور المقاومة بهذا الدور؛ بل فجّر ثورة عالمية كانت مُبطَّنة ومؤجّلة ضد الصهيونية العالمية في القارات الخمس؛ الأمر الذي جعل الكيان وداعميه على مفترق طرق وخيارات تاريخية مفصلية ولأول مرة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني.

لا شك أن الطوفان سينتهي وفق شروط المُنتصر وهو فصائل المقاومة بـ"غزة هاشم"، ولكن ثماره الحقيقية ستُجنى بعد صمت البنادق؛ حيث ستدور رحى الحسابات السياسية والعسكرية والأمنية بداخل كيان العدو، وسيقلِّب داعموه فيما تبقى لديهم من أرصدة القوة لدعمه بعد استنزاف فائض قوتهم في "قمار أوكرانيا"، تلك الجغرافية التي أيقظت العالم نحو المخطط الصهيوني البعيد عبر بوابة أوكرانيا وجعلت أحرارًا يلتفون حول بعضهم ويتنادون لتشكيل قوى مضادة للقطبية الأمريكية المتوحشة، وأول أسفين سيُدق في نعشها سيكون عبر التحرر من استعمار الدولار أولًا، وسيلي ذلك تقليب الرأي في المنظمات التي كانت أممية وتحولت لاحقًا إلى قوى ناعمة تحت تصرف أمريكا والغرب لإخضاع العالم والتنكيل به.

أوكرانيا بالأمس وطوفان غزة اليوم، جغرافيتان مُلهمتان تشَكُّلان عالما جديدا خالياً من الصهيونية العالمية، وبالنتيجة خالٍ من الهيمنة والتبعية والاستغلال الجشع.

قبل اللقاء.. يقول الزعيم الصيني ماو تسي تونج: هناك حركات صغيرة في التاريخ غير مرئية، تكون سببًا في تغيير مجرى التاريخ.

وبالشكر تدوم النعم..