قراءة تحليلية لرواية "خريف زنجبار"

أنور الخنجري

يفاجئنا الزميل عبدالله المجيني بأول إصداراته الأدبية من خلال هذه الرواية التي تحمل في طياتها رؤية مليئة بالكثير من الثراء والتضمين ومستوى عال من الدلالات العميقة وبأسلوب نلتمس من خلاله أحداث الواقع الدامي في زنجبار بعد ثورة عام 1964.

عنوان الرواية يلقي بظلاله على خلفية الأحداث التي وقعت هناك وهي بحد ذاتها خريف تساقطت فيه أوراق نشوة الربيع العماني في زنجبار. إنها محاولة جريئة من الكاتب تعكس واقع حال العمانيين في الزمكان الأفريقي وهي فعلا غيض من فيض ما تعرض له العمانيون من مآسي كثيرة خلال تلك الفترة؛ حيث ارتأى الكاتب اقتصارها على عائلة واحدة وهي عائلة الشيخ عيسى بن علي الإسماعيلي وما ارتبط بها من شخوص وأحداث. ومن أجل فهم أعمق لما جرى، فقد مد الكاتب جسور التواصل والألفة مع المكان من خلال زيارته الشخصية لمواقع الأحداث والتجول في تلك الأزقة والشوارع والحارات حيث أكمل فيها شواهده وتخيلاته، حاملًا في أفكاره وضميره ضيم المعانة التي واجهها العمانيون هناك؛ مما حداه اللجوء إلى محراب الكتابة مدونًا أسطرًا زاخرة بالهم الإنساني المفعم الذي اختصره في كتابه "خريف زنجبار".

كما وظّف الكاتب في الرواية خلفيته العلمية والعملية وما لديه من إلمام بعلوم القيادة والتخطيط وما يكتنزه من معرفة بجوانب الأحداث المؤثرة في المنطقة؛ مما ساعده على سرد تفاعلات الأحداث في بنية نصية أراد لها أن تكون مليئة بالإصرار والعزيمة والصراع والمغامرة والحلم والفرح الذي يكتف أبطال الرواية، ويبقيهم متراصين متكاتفين من أجل غد مشرق في الأفق، والذي تحقق لهم في نهاية الأمر بوصولهم إلى الوطن الأم فرحين مستبشرين. كما يسبر الكاتب غور الشخصيات المتعددة التي يتناولها وهي تعيش حالات العذاب الذي يمزق النسيج الاجتماعي للإنسان المحكوم عليه بالموت والسجن والإهانة والترهيب. فهو حين يتحدث عن مقتل الشيخ ناصر بن عيسى الإسماعيلي ورمي جثته بعد تقطيعها في غياهب الجب الذي تحول بعد ذلك إلى مرقده الأخير، فإنه يرمز إلى مدى بشاعة الموقف وفظاعة الممارسات اليومية من قبل أوباش النظام والمتعاونين معهم من بني جلدتهم.

 

لقد دقت هذه الأحداث في حياة المؤلف عبدالله المجيني إسفينا عميقا مؤثرا جدا على حسه ووجدانه الوطني. فتراه في مواضع كثيرة يعود بالقارئ إلى الوطن الأم، وإلى قريته في ودام الساحل، أو إلى مدن ومناطق أخرى في عمان وربطها بأحداث الرواية بلغة بليغة سلسة ومشوقة. فالوطن بالنسبة له هو الوطن، أي كان موقعه الجغرافي والغربة هي وطن، وإن كان هذا الوطن هو (زنجبار. الوطن هو التاريخ والجذور العميقة التي تمتد في كل مكان وزمان وعبر كل أنواع البشر. وفي عرضه للأحداث يغوص الكاتب في قاع المفردات العمانية، ويتحفنا بالكثير من المأثورات الشعبية والمصطلحات العمانية القحة مصحوبة بهوامش واضحة الشرح للقارئ غير العماني وللأجيال العمانية الحديثة حفاظا على الفهم، وعلى بقاء هذه الموروثات في وجدان القارئ أيًّا كانت خلفيته.

وفي قراءة متواضعة لفضاءات عمل الكاتب نلحظ طابع المأساة المليئة بالحركة في بقعة أفريقية محددة يراها كثير من العمانيين جزءا من كيانهم المسلوب. هي فضاءات واقع ذلك الزمان بمفرداته بشخصياته بحوادثه، يطلقها الكاتب بشكل متناسق وجميل مع تسليط الضوء على نحو أساسي على ثقافة عمانية متجذرة في فسيفساء زنجبار متعددة الأجناس والعرقيات. فالمشهد في زنجبار في تلك الفترة لم يكن مختلفا عن ما شهدته المنطقية الأفريقية والعربية من تغيرات عديدة على ضوء أفول الاستعمار وبروز تيارات وأنظمة ثورية جديدة كل يراها ويفندها من زاويته الخاصة. ومن متابعتي لقراءة الرواية أجد بأن الموهبة الأدبية واضحة لدى الكاتب، فهو يعبر عن تجربة إبداعية لظروف قاسية عاشها أبطال الرواية في زمن قاسٍ حكمت فيه الغوغائية حياة الناس، وألقت بظلالها على أفكاره، فتراه يقدم الشخصيات، وهي تعاني إرهاصات اجتماعية وفكرية ونفسية كما هي في واقع السجن والاحتجاز والتحقيق والتهديد والقتل والتنكيل والهروب وغيرها من مفردات المعاناة الإنسانية. معلومات غزيرة وثقها الكاتب وأجمل ما فيها أنه عبر عنها بموضوعية مبدع تتشابك أحاسيسه مع أحاسيس الناس. هي معلومات واقعية استقاها من رواة عايشوا تلك الفترة بتفاصيلها- أو نقلوها عن ذويهم- ويعتبرها الكاتب لحظات مهمة قد تفلت من الزمن إن لم يتم توثيقها وتدوينها في صيغة رواية سردية مبنية على السيرة الذاتية التي هي بدورها نهجا أدبيا مهما لم نعتد عليه في قراءة الرواية. لذلك فهي أحداث مهمة بالنسبة له حريص الحرص كله على أن لا تنفرط منه خلال تحليقه عبر نافذة شخصية الروائي الذي انطلق بعمله هذا معتمدا على الراوي في سرد الوقائع وفقا للبناء الدرامي لسلسة الأحداث بمناخاتها وتقلباتها وانفعالاتها وحركة الشخصيات فيها وردود أفعالها، إلا أن ذلك لم يبعد الكاتب بالطبع من توظيف مخيلته في إضافة أو إقصاء ما لا يتناسب مع سياق النص المروي.

وهكذا نلاحظ أن الكاتب استخدم أسلوبا مزدوجا في الكتابة مبنيا على صيغة سرديات الراوي الذي وظفها الروائي بطريقة سلسة وعذبة عبر خط درامي متصاعد للأحداث نتج عنها عمل درامي يحتوي على الإثارة والإمتاع والتثقيف ضد الممارسات غير الإنسانية.

نرى أن الكاتب يتمتع بخاصية مميزة في الكتابة المروية، ويضع لمساته الفنية واضحة في عمله هذا وكأنه يراهن على مقدرته الولوج إلى عالم الرواية المروية من خلال تقديم سرد وسيرة ذاتية في الآن ذاته.

تعليق عبر الفيس بوك