علي بن مسعود المعشني
لا شك عندي أن طوفان الأقصى غيَّرَ كثيرًا في قواعد الاشتباك مع العدو الصهيوني ولكن التغيير الأكبر للطوفان يتضح في حجم الأوراق والخيارات السياسية التي أسقطها، وحجم الأوراق والخيارات السياسية التي أبرزها على السطح في المُقابل كذلك.
طوفان الأقصى خلط الكثير من الأوراق السياسية والعسكرية في المنطقة، واخترق الوعي العربي المُعاصر والمحاصر منذ عقود بالنظرية الصهيونية "الخوف مُقابل الكثرة"، وأعاد ترميمه ورمم معه ومن خلاله الرأي العام العربي والضمير العالمي، لهذا رأينا حجم المساندة والتأييد والدعم والتعاطف للمقاومة في الوطن العربي وعواصم العالم وبصورة غير متوقعة ولا مسبوقة، رغم التهديد والوعيد في عواصم غربية عدة للشعوب من النشر أو التعبير بأضعف الإيمان وهو التظاهر أو النشر عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي.
ما يهُمُنا في هذا المقال، ليس الحديث عن الانتصار العسكري المدوي والمُبهر لفصائل المقاومة انطلاقًا من غزة وإلى سائر تراب فلسطين العزيزة، فقد رأى العالم ذلك بالعين المجردة وبالصوت والصورة، لكننا سنتطرق الى ما لا تراه الأعين اليوم ولكن تُدركه العقول، والمتمثل في النتائج السياسية لهذا الطوفان، والتي ستأتي تباعًا وبصور تعادل حجم الانتصار العسكري، على اعتبار أن محور المقاومة هو من سيستثمر هذا الطوفان ويجني ثماره ويوزعها على المؤمنين بفضل المقاومة ودورها في هذه المكاسب، بعد أن ولَّى زمن تحويل الانتصارات العربية العسكرية الى هزائم سياسية نكراء للعرب، وأقرب مثال لها نصر حرب أكتوبر المجيدة عام 1973م والذي تحول بفعل التخاذل الرسمي العربي الى اتفاقية كامب ديفيد المعيبة.
طوفان الأقصى اليوم سيكون مُميتًا للتطبيع الرسمي العربي مع الكيان الصهيوني، وسيجعله وبالًا حقيقيًا وحصريًا على المُطبِّعين، على اعتبار أن المقاومة سترسم ملامح مستقبلها بيدها وبمعزل عن النظام الرسمي العربي المُكبل بقيود كثيرة، بدءًا من وبال الدولة القُطْريَّة وصولًا إلى التسلُّح بنظرية الشرعية الدولية التي تُنصِف الكبار فقط ويتسلح بها الضعفاء والصغار لاختيار طريقة حتفهم ونهاياتهم.
التطبيع بعد طوفان الأقصى، سيصبح حالات فردية معزولة تمامًا عن أي تأثير على نهج وخيار المقاومة ولا على الأمن القومي العربي بمكوناته ومفهومه العميق؛ حيث لن يجد المطبِّعُون في الكيان الصهيوني ولا رُعاته أي مكاسب سياسية أو قيمة مضافة يُعتد بها أو يُراهن عليها، فما قبل الطوفان ليس كبعده على الإطلاق.
قد يُحقق التطبيع للكيان الصهيوني شيئًا من التنفيس والدعاية والتضليل الإعلامي، لكنه في المقابل لن يحقق له أي مكاسب سياسية أو عسكرية ملموسة على الأرض بعد طوفان الأقصى، لهذا سنلاحظ أن قيادات الكيان المتعاقبة مستقبلًا فاترة مع التطبيع وليست بجذوة الحماس السابق، على اعتبار أن أهم عنصر لهم وهو الأمن مفقود ومهدد ومصيرهم بأيدي محور المقاومة وليس بيد المطبعين الفاقدين لكل أوراق الضغط والتأثير بعد جلاء ضجيج الطوفان.
التطبيع بعد الطوفان لن يحقق للكيان الصهيوني شيئًا من استراتيجيته الكبرى في المنطقة ولا من أهداف الغرب في استثمارهم للكيان كمعيق لنهوض الأمة، وأداة لنشر التصهيُن وتطويع الأمة العربية وإخضاعها "للسيد" الصهيوني كشُرطي مطلق وقائد أوحد لمصيرها.
"طوفان الأقصى" اسمٌ على مسمى بالفعل، وسيكون كالحجر الذي يتسبب في تغيير مجرى نهر التاريخ، وستظهر أعراضه ومؤثراته تباعًا.
قبل اللقاء.. أمريكا تُريد، والله فعَّالٌ لما يُريد سبحانه وتعالى.