علي بن سالم كفيتان
لم تنل الشعوب حُريتها واستقلالها بالخنوع والذل والهوان، ولم يُؤخذ حق من مستعمر غاصب بالتفاوض الكاذب والمراوغة والعيش على بقايا ما يقذفه ذلك المستبد الظالم في حظائر الخانعين الذين يقتاتون على صرخات الأطفال ونحيب النساء، ودماء الشهداء الذين استنهضتهم الحمية والدين والمبدأ لبذل أرواحهم الطاهرة هدية لنيل الحرية وتحقيق العدالة.
خطر المنتفعين يوازي أو يفوق ما يفعله العدو في صفوف المجاهدين؛ فالخيانة هي الشوكة التي يغرسها المستعمر في جسد الثورة، وعندما تبحث عنها في جسدك لا تجد لها أثرًا سوى ألم عميق وجرح ينزف في الداخل؛ لذلك يبذل المستعمر كل ما يملك لتمكين هذه الفئة الغادرة، فلا تفاوض إلّا معهم، ولا انفراج للأزمات إلّا من خلالهم؛ ليقتنع الناس بأهميتهم التي يستمدونها من الطغاة. ومن المؤسف حقًا أن يصبح العرب- الذين اصطفاهم الله لحمل رسالته الخالدة- في هذا الموقف المخزي اليوم، شعوب تفورُ لنصرة شعب يُذبح بحماية غربية، وأنظمة تكبح كل صرخة من أجل الذهاب إلى أرض فلسطين المحتلة.
لقد سابقت أقوى دولة في العالم الزمن لتنقذ الابن المدلل- الكيان الغاصب المحتل- الذي غرسته بريطانيا يومًا ما، وترعاه بكل إخلاص أمريكا ومن خلفها الأمم الغربية جمعاء، فأرسلت حاملات الطائرات وجيّشت آلاف الجنود، وبعثت بأطنان الذخائر، وحجَّ الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته ودفاعه وقائد قاعدته الوسطى، كل ذلك لتمكين العصابات الصهيونية من التنكيل بشعب مجاهد ظلمه التاريخ وتجاهلته البشرية، بينما هناك من يتواطأ مع الصهاينة، والأمة باتت تحتضر تحت النار.. إنه شعور مخزٍ بات لا يُطاق في الشارع العربي، ولن ينسى التاريخ هذا المشهد مُطلقًا؛ ففي الوقت الذي أربك فيه بضع مجاهدين من كتائب عز الدين القسام العالم في السابع من أكتوبر، ترتعد فرائس الجنرالات وتخبو الرتب والنياشين وتسقط الشهادات العسكرية لرجال لم يخوضوا يومًا حرباً غير حروب الشوارع ضد شعوبهم.
عشرات الآلاف من الصهاينة المجلوبين من كل بقاع الدنيا، هربوا من عسقلان وأسديروت إلى مطار بن جوريون؛ ليعودوا من حيث أتوا؛ فالأمر لا يستحق كل هذه التضحيات.. ففي لحظة تبخرت كل الوعود التي قُدِّمت لهم بالحياة الآمنة المستقرة في فلسطين المحتلة، وبات الدم هو مهر الحرية الذي يتسابق إليه مجاهدو عز الدين القسام، ويهرب منه قطعان الصهاينة.
هنا.. الأرض عرفت من هو صاحبها، القادر على البقاء والتضحية؛ فصمد الرجال ودحروا الجيش الذي لا يُقهر- كما زعموا- والفكرة المسيطرة على عقول العرب منذ 75 عامًا؛ ليرسموا واقعًا جديدًا أربكَ ذلك النمر الورقي ومسانديه الغربيين، فلم تعد فلسطين بعد اليوم آمنةً للصهاينة بعد انهيار جيشها وفراره من المعركة، تاركًا هؤلاء فريسةً سهلة للمجاهدين. لقد تزعزع الكيان إلى الأبد، ونمت حقيقة جديدة لدى كل فلسطيني حر وعربي شجاع ومسلم مؤمن، تقول إن الصهاينة لا يُمكنهم الصمود في وجه الحق والحرية والجهاد؛ فهشاشتهم تكشَّفت للجميع في ذلك الصباح الذي التحم فيه الرجال معهم وساقوهم إلى الخنادق والأقبية وهم يصرخون طالبين الرحمة، مُتنكرين لدولتهم المزعومة وشعبهم المختار.
نحن شعوب لا نُتقن المظاهرات في الشوارع والساحات والصراخ "الموت لإسرائيل"، ولا نؤمن بأنها تحرر الأوطان، نحن أمة بصرية تختزن غضبها ليتراكم حتى ينفجر يومًا ما ويأخذ معه كل الغزاة والخونة والمنتفعين إلى الجحيم.. نحن أمة لا نعبد المال ولا نقدس الحياة الذليلة؛ بل تُلهمنا صيحات الجهاد، ويُسعدنا ارتقاء أرواحنا إلى الرفيق الأعلى، مضرجة بدماء الشهادة؛ لتسموا في الدرجات العُلى من الجنة.. هكذا قال نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام، لهذا لا نألم عندما نُقاتل الظالم، تاركين الدنيا خلف ظهورنا، مُقبلين على الجنة ونعيمها، وهذا ما يُخيف كل أمم الدنيا مِنَّا ويتحدون جميعهم ضدنا، وهذا ما يسطره اليوم المناضلون في فلسطين.
لقد انكشف زيف الحرية والعدالة والتعبير عن الرأي وحقوق الإنسان الذي تبنته الحضارة الغربية لقرن ونيف، وسقطت كل تلك الشعارات في اختبار غزة، ففي الوقت الذي تدعم فيه أمريكا وحلفاؤها الغربيون أوكرانيا لاستعادة أراضيها، نجدها تضع كل ثقلها مع المغتصبين الصهاينة لأرض فلسطين، ويقايضون لاسترجاع بضع من رعاياهم وقعوا أسرى في قبضة حماس، مقابل عودة الكهرباء والماء والوقود والغذاء لملايين البشر! ولم أجد تفسيرًا منطقيًا لذلك السلوك الانتهازي، إلّا خوفهم من عودة الهجرة العكسية لليهود إلى أوروبا وأمريكا وفشل توطينهم في فلسطين.