زيارة أيديولوجية للكذب

سعيدة بنت أحمد البرعمية

 

لا شك أن الكذب صفة غير مرغوبة أخلاقياً واجتماعياً، ولكن هذا لا يعني أنَّها ليست موجودة فينا، لذا فإنَّ تناوله كموضوع للقراءة أمر مثير خاصة في مجتمعات القيم والنبل، تناول الكثير من الفلاسفة الكذب كلٌ حسب فلسفته، فقال أرسطو عن الكذب "الكذّاب ليس هو الشخص الذي يملك القدرة على الكذب؛ بل هو الشخص الذي يميل إلى ممارسة الكذب".

في حين أتى الفيلسوف والناقد الفلسفي للفلسفة الأوروبية جاك درّيدا ليقول في كتابه المعنون بتاريخ الكذب: "لو كان للكذب- كما هو شأن الحقيقة- وجه واحد لكانت العلاقات بيننا أحسن ممّا هي عليه عادة، إذ يكفي أن نحمل على محمل الصدق نقيض ما ينطق به الكاذب منّا؛ إلاّ أنّ نقيض الحقيقة له مائة ألف وجه ولا يمكن الإلمام كليا بالحقل الذي يشغله".

هذا يعني أننا نرى للحقيقة وجه واحد على خلاف نظرتنا للكذب؛ مع العلم أن للحقيقة وجوه كثيرة نتجاهل النظر إليها!

كانت جدتي تنهانا عن الكذب وتقول: "انتبهوا يا عيالي لا حد منكم يكذب ويقول: حلمت وهو ما حلم، إللي يكذب بالحلم يحاسبه الله"، ولكن لم يسألها أحد منَّا عن الكذب في اليقظة؛ فالكذب أمر غير مقبول وهذا ما ندركه منذ نشأتنا، ورغم ذلك كان يراودني أن أحلم حلما مذهلا وأخبر به البعض وأرى اندهاشهم من أحداثه وقلقهم من تحققه وأسمع ما يتمتمون به من كلام عند سماع ما لا يعجبهم أو يقلقهم من تحقق حلمي؛ لكني لم أفعل وبقي ذلك الشيء رغبة كامنة فيني لم تتحقق، لا أدري هل هي مخافة الحساب الإلهي أم مخافة جدتي التي تردد دائما أنها تعرفنا حين نكذب!

وعندما يأتي أحدهم ويقص رؤياه المطعّمة بمشاهد بوليسية أو فانتازيا، كنت أشعر أنه فعل ما لم أستطع فعله وجاء بأمر خارق لأنه استطاع فعلها؛ فيبدو لي أنه خالف كلام جدته أو أنها لم تنصحه، فالأمر لديه غير معقد.

عفوًا جدتي ما زلت أودّ أنْ أحلم دون أنْ أحلم؛ فهناك الكثير من الأحلام التي حلمتها كذبا وأودّ مشاركتها المؤمنين بتفسير الأحلام؛ فهم يسعون لتفسيرها أكثر من سعيهم لأيّ شيء آخر.

كان من أغرب ما رأيت يا جدتي حلما عجيبا، رأيت أرسطو يقف أمام جاك درّيدا يضرب كفيه كفا بكف وهو يقول: "أنا أخطأت حينما هيكلت المفاهيم وصنفت وخصصت المعارف، كان ينبغي ألاّ أخصص ولا أرتب ولا أهيكل، كان علي أن أبقيها كما كانت على عموميتها مبعثرة متداخلة، كان عليّ ألاّ أتناول الكذب وأضعه في مفهوم ثم تأتي أنت وتفككه، ثم قام وأخذ كلّ كتب المعارف والأخلاق وأشعل نارا كبيرة ورماها فيها، ثم نفض يديه وجلس قائلاً: لنبدأ جميعا من الصفر في كتاب واحد مع معلم واحد وفي مدرسة واحدة، ثم صحوت مذعورة من هول ما رأيت.

لا أدري يا جدتي كيف يُمكن أن يُفسر حلم كهذا، لكني موقنة أن هناك من سيعتني به ويحاول قدر استطاعته تفسيره، وربما يربطه ربطا تاما بأرسطو ويشكك في فلسفته وبراعته وينسى تماما أمر الرائي، وقد يربطه بمسائل دينية وفلسفة وجودية ووقائع تاريخية وأمور غيبية، كما أعلم أنك لن تشككي في مصداقيتي؛ ثقة منك في أنني لا أكذب وأنني تعلمت درسك جيدا.

الأمر الذي تجهلينه أيضًا، أنني أمارس الأحلام الكذبية باستمرار وإن لم أشاركها أحدا؛ لأني كنت وقتها أؤمن بامتلاكك القدرة على كشف الكذب كما تدّعين، وكما ترين الآن اختلف الأمر فصرت أجاهر بأحلامي الكذبية؛ لأني أعلم أن لها من يهتم بها، ويعجبه سردي لها كاستماعه بودكاست لرواية فانتازيا أو بوليسية.

لا أخفي عنك أنني أكذب حين أصدق وأصدق حين أكذب وأعيش بين الأولى والثانية حياة المنتصر بعد الهزيمة، أكون صريحة معك إذا قلت لك أنت لا تملكين مهارات دراين ستانتون في كشف الكذب؛ وكذبت علينا حين ادعيت أنك تمتلكين قدرات كقدراته، أرأيت يا جدتي نحن بطريقة أو بأخرى نكذب ونتشابه حين نكذب، اختلافنا يكمن في حجم الصدق والإبداع لدينا لا أكثر، أنت لا تعلمين متعة الكذب في الحلم، هو يشعرك بأنك تأتين برسائل من عالم الغيبيات وتوزعينها للشغوفين بها في أبواب التفسير.  

قرأت يا جدتي بعض القصص وتفاعلت معها وأثرت فيني وأصل في النهاية إلى أنها أحلام أدبية مذهلة؛ فابتسم معجبة ببراعة الكاتب، وفي كتاب "تاريخ الكذب" يجد القارئ أن جاك درّيدا يعتقد بأنه من الاستحالة أن يكذب الإنسان على نفسه، لسبب أنه سيجد صعوبة بالغة في إقناع نفسه بالكذب؛ لأنه يعلم أمور حول الأمر ذاته، لكنه يمارس الكذب عندما يريد أن يخفي أمر ما أو يلحق الأذى بالآخرين في كافة المجالات الحياتية والاجتماعية والسياسية.

يرى درّيدا أن الكذب غير موجود بتاتا، ولكن ممارسته فعل موجود، ويجب أن نفرق بين الأمرين، فلا وجود للكذب إلاّ حينما نمارسه، كما يرى بأن الكذب محاكاة للحقيقة وأن الأساطير بدورها محاكاة، بمعنى أن كل هذه الأمور تمثلات نفسية وذهنية يستدعيها الإنسان، هدم درّيدا من خلال فلسفته التفكيكية المفهوم الكلاسيكي للكذب الذي ينص على أن: "الكذب فعل مقصود" وبناه بقوله: "المقصود هو فعل الكذب".

أعلم أن هناك من سينظر لمقالي على أنه يزيّن الكذب، والبعض لا يقنعه ما يأتي في كتب الفلسفة والأدب والنقد، والفلسفة في نظرهم جنون والأدب مجرد خيال والنقد اختلاق مثالب؛ ولكن لا بأس؛ فنحن ما زلنا نتفق جميعا على مكانة الشعر وأهميته وقيمته.