ما بعد الصدمة! (1- 2)

الخيارات الإسرائيلية في التعامل مع حرب غزة

 

 

ناصر بن جمعة الزدجالي **

 

 

بعد خمسين سنة من حرب أكتوبر 1973، وفي نفس مناسبة عيد الغفران اليهودي وأسلوب الحرب الخاطفة، تنجح حركة حماس بطريقتها الخاصة في تنظيم احتفالية اليوبيل الذهبي لحرب العاشر من رمضان، وتنقل المعركة إلى داخل إسرائيل، لتلقنها دروسًا عسكرية واستراتيجية في غاية الصعوبة، لعل أبرزها تدمير سمعة إسرائيل كقوة لا تقهر.

حدث ذلك مع اختراق تحصينات إسرائيل البرية والبحرية والجوية، وتكبيدها خسائر بشرية غير مسبوقة قد تصل محصلتها إلى 1500 قتيل، و2000 جريح وبين 100 إلى 170 أسيرا، حسب بعض التقديرات. وبالرغم من جسامة الخسائر، فإنَّ الأرقام الأخيرة هي الأهم؛ حيث لم تصل ذروة أعداد الأسرى الإسرائيليين خلال سنوات الصراع الأخيرة إلا في حدود 100 أسير في حادث اختطاف طائرة الخطوط الفرنسية بمطار عنتيبي بأوغندا في عام 1976. ولعل من المصادفة هنا أن الضابط الإسرائيلي الوحيد الذي قتل بعملية التحرير حينها هو الكولونيل يونتان نتنياهو، شقيق رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو.

من الواضح للمحللين أن إسرائيل احتاجت ما لا يقل عن 24 ساعة كاملة لتستفيق من صدمتها لتبدأ تدريجيًا في استعادة وتفعيل هياكلها الأمنية لاستيعاب ماذا جرى؟ وكيف تم كل هذا؟ وماذا يجب عليها أن تفعل في ظل هذا الواقع المرير والنتائج الكارثية التي مرّغت سمعة الدولة اليهودية في التراب؟ وحتى تتمكن من لملمة جراحها وجبر كسرها، كان عليها أن تبدأ بشكل سريع ومتزامن في وضع خطط ردة الفعل بالشكل الذي يمكن أن يستعيد لها شيئًا من كرامتها المسلوبة على المستويين الداخلي والخارجي.

وفي وسط مثل هذا الذهول والمواقف الصعبة، وبحالة وصفها المراقبون بأنها قد تكون الأعنف منذ المحرقة النازية، يتساءل الكثير عن ماذا بعد بالنسبة لإسرائيل؟ وما الكيفية التي سياتي بها ردها الحتمي، وما حسابات غزة وجاهزيتها تجاه الانتقام الإسرائيلي والتصعيد؟

في مثل هذه المواقف الاستثنائية، خاصة بالدول التي ترى أن لديها خيارات واسعة وأدوات متعددة للرد ممزوجة برصيد كبير من الغطرسة، يجد الساسة أنفسهم أمام خيار صفري وحيد وهو الرد الآني السريع دون الحاجة للأخذ بالضرورة بكافة العواقب المحتملة على المدى البعيد أو حتى المتوسط.. وعند تحليل تاريخ الصراع ودراسة الموقف والحالة النفسية التي تمر بها الدولة اليهودية، ومن جهة أخرى محاكاة ومقاربة هذه الصدمة بأحداث مشابهة كحادثة 11 سبتمبر بالولايات المتحدة الأمريكية في عام 2001، يمكن أن نستنج مسارًا متوقعًا لردة الفعل؛ فالنسبة للإدارة الأمريكية حينها أتى الرد سريعًا جدًا وبشكل يسابق الزمن لجمع أكبر رصيد من الأفعال في أول 100 يوم من الحادثة. وبالنظر إلى تقارب التفكير بين الدولتين، يمكن أن تلجأ إسرائيل إلى بعض الخيارات المشابهة، لذا من المحتملين أن تكون سيناريوهات التحرك من خلال أربعة أبعاد هي: الرد السياسي، والعسكري، والاقتصادي والإعلامي.

ويستعرض هذا الجزء من المقال الإجراءات السياسية والاقتصادية المتوقعة من طرف الدولة اليهودية.

سياسيًا: مع أن البعد العسكري سيتصدر المشهد وسيكون بلا شك الرد الأبرز والأكثر حضورًا، وهو الذي بدأنا نرى حدته فعليًا، إلا أن إسرائيل ستستخدم أيضًا البعد السياسي بشكل كبير سواء من خلال أدواتها الدبلوماسية، أو عبر توظيف حلفائها لقيادة ودعم هذا الخط. ولقد لمسنا فعليًا تنشيط هذا المستوى السياسي بشكل مبكر من خلال الإعلان الرسمي للحرب، وتشكيل حكومة وحدة وطنية على غرار ما حدث خلال حرب أكتوبر 1973، والتواصل مع كبار حلفائها والمجتمع الدولي بشكل عام.

ومن المتوقع أن تكون أبرز الأهداف السياسية كالتالي:

أ- تقوية الجبهة الداخلية وتوحيد الصف الإسرائيلي من خلال تبني تشكيل حكومة وحدة وطنية وتجميد الخلافات الحزبية ووقف المظاهرات المتعلقة بالتعديلات القضائية.

ب- ضمان التعاطف الدولي ومنح إسرائيل رخصة دولية مفتوحة والحرية الكاملة للانتقام واستعادة هيبتها الدولية.

ج- السعي لاستصدار قرار أممي من مجلس الأمن لإدانة "عدوان حماس" ومنحها التفويض الذي تحتاجه لأطول فترة ممكنة خاصة من قبل الدول الدائمة العضوية والعمل على تحييد معارضة كل من روسيا والصين.

د- ضمان استدامة الدعم الأمريكي الكامل وتوظيفه كغطاء سياسي للعمليات الإسرائيلية الانتقامية.

هـ- البحث عن كبش فداء خارجي من خلال ربط الحرب بالتمويل والدعم الإيراني وتكثيف الضغط الأمريكي على إيران للتضييق على آفاق الحل للبرنامج النووي.

و- مواصلة التنسيق مع مصر لمعرفة أوضاع الأسرى وحثها لتكون قناة تواصل بين الطرفين مع السعي بالمرحلة الأولى إلى استعادة الجرحى والمسنين من الأسرى (ربما مقابل صفقة الانسحاب من غزة) لضمان علاجهم داخل إسرائيل.

ز- مواصلة إلقاء اللوم على السلطة الفلسطينية على الأحداث والتضييق عليها كمرحلة أولى، وكخيار آخر، ربما العمل لاحقًا على تقويتها لسد فراغ السلطة وتحريضها على ردع وترهيب المقاومة كشرط الانسحاب من غزة وتسليم السلطة.

ح- زيادة وتيرة التطبيع مع بعض دول الخليج من خلال الوساطة الأمريكية والتنسيق مع الأردن لقطع الطريق على أي ضغوطات من الشارع والحيلولة دون تقديم أي دعم شعبي، بالإضافة إلى مواصلة الضغط على سوريا (كبش الفداء) ولبنان لتحييد حزب الله.

ومع أن البعد السياسي مهم جدًا لإسرائيل بهذه المرحلة، إلا أن الأوضاع الدولية الحالية وحالة الاستقطاب الكبيرة والصراع بين الأقطاب، سيجعل النجاحات بهذا المحور محدودة بهذه الفترة، ولن يمكّن إسرائيل من الظفر بالتأييد المرغوب إلا من خلال حلفائها التقليدين أو من تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية التأثير عليهم، ومع ذلك تدرك إسرائيل أن هذه فرصة كبيرة لتصفية حماس كليا على المستوى السياسي وتجريم التعامل معها بأي شكل من الأشكال.

إعلاميًا: يُعد الإعلام سلاح العصر وهو الأكثر تفضيلًا والأسرع تأثيرًا لرفع الروح المعنوية، كما يعد ممكّن رئيسي ومُهم للحرب النفسية. لأجل ذلك ستقوم إسرائيل وجميع المتعاطفين معها بجهود مضنية لتوظيف الإعلام كأداة حاسمة للنجاح ووسيلة فاعلة ترفد بها الجهود السياسية والعسكرية لإحداث التأثير المطلوب وتسخيره لخدمة حاجة إسرائيل الماسة لمسح تداعيات الانتكاسة المدوية. هذا وستكون أهم الأهداف بالبعد الإعلامي كالتالي:

أ- العمل على استعادة الروح المعنوية للسكان والشعب اليهودي وتعزيز الانتماء لفكرة إسرائيل ومشروعها الصهيوني.                                                                                 

ب- ضمان التوافق الداخلي والتشجيع على الوحدة الوطنية وتنحية الخلافات الداخلية جانبًا إلى أن تنتهي فترة الطوارئ والحرب.                                                                       

ج- السعي الحثيث لتعزيز قوة إسرائيل الناعمة والمتمثلة في التنمية والديمقراطية والتقدم التقني والعسكري.                                                                                           

د- تعبئة الرأي العام الدولي لشيّطنة حركتي حماس والجهاد الإسلامي والعمل على عزلهم دوليًا وفرض عقوبات أممية أو غربية عليهما.                                                               

هـ- البحث عن قصص نجاح وبطولات من هنا وهناك لصرف النظر عن الإخفاقات والحديث عن تلك الإنجازات والتضحيات الفردية وتسليط الضوء عليها لحجب والتشويش على فكرة الإخفاقات الكبرى.                                                                                                                                   

و- البحث عن كباش فداء من القيادات الحالية والعمل على إجراء نوع من المحاكمات للمقصرين والسعي لتصفيتهم وعزلهم من الحياة السياسية والعامة من خلال أدوات برلمانية وقضائية استثنائية.                                                                                                                                 

ز- ملاحقة المواقع الإلكترونية المتعاطفة مع المقاومة وفرض عقوبات عليها وتجريم كل من يبدي أي تعاطف مع أفكار المقاومة أو يتعرض لردة الفعل الإسرائيلية بالنقد والتجريح.

ح- إظهار ولعب دور الضحية في الحرب لحشد الرأي العام وضمان التعاطف الدولي مع إسرائيل.

لا شك أن البعد السياسي والإعلامي لهما أهمية كبرى، إلا أن الرد المفضل لإسرائيل كان دائمًا القوة الصلبة التي تتمثل في البطش والقمع العسكري. والمقال المقبل سيتعرَّض لخيارات إسرائيل العسكرية والاقتصادية والأهداف بكل بعد منها وآليات توظيفها لخدمة أهداف الحرب الكبرى.

** عميد ركن متقاعد وخبير ومستشار استراتيجي

تعليق عبر الفيس بوك