المواطنة والاستدامة

 

فاطمة الحارثية

أدركتُ منذ أن كنتُ في المرحلة الإعدادية أنني لا أستطيع أن أغيِّر رأي جماعة ورثت معتقدًا ما، وعليّ أن أمضي بصمتٍ لأنني كلما حاولتُ إظهار حقيقة أو حتى منطق وبكل البراهين لا يمكن أن يصغوا، أو يقبلوا تصحيح آرائهم، فتعلمتُ الصمت وأن أمارس دور الشاهد، وأتابع الأمور بتدبر وتفكر، وهنا بنيتُ الفضول في داخلي ومتابعة خيارات الناس وإلى أين يقودهم فكرهم، وبأي حال ومصير ينتهون، لا أستطيع أن أقول إنها متابعة ممتعة لكنها تورث الحكمة.

المواطنةُ أصالةٌ ومبدأٌ وقيمٌ، فهل نحن نمارسها كإرثٍ أو تقليدٍ أو تأقلمٍ؟ العولمة ضربت بالكثير من التقاليد والعادات عرض الحائط؛ بل وزحفت إلى أن وصلت للأديان وسلامة المصير، وبات الإنسان يبحث عن إنسانيته، وأصالته وانتماءه، فهل يواكب متغيرات مرهِقة قد يخدع نفسه بها، وبأن يتأقلم بحكم أن التغيير لا بد منه؟ أم يثبت على مبادئ وقيم إنسانية، تُريح معاشه وترضي ذاته التي جُبل عليها؟ أم يجمع بين مسؤولية التطور مع الحفاظ على عراقة فكره، وسلامة سلوكه الحضاري والبيئي والمجتمعي، ويقبل بوحدة الهوية؟ الهوية تفرد تميز الشعوب والمجتمعات، وهي ما تصنع المقامات في المجتمع الدولي، لكن هل يمكن تطورها وتجددها لتواكب مفهوم الاستدامة، مع الحفاظ على سلطة المقام المرغوب به؟

لنلمس محاور المواطنة في ظل مفهوم الاستدامة، ولكن لن أشرح الأمر؛ بل سوف أشارككم بعض الأمثلة حتى يسهل عليَّ إيصال بعض فكر أتدبره منذ بعض الوقت.

أيدولوجية المواطنة تكمن في تطبيقٍ بيّنٍ يُحقق الملكية والسلطة الفكرية أكثر منها طقوس وعلامات ورموز ولغات وموروثات، أي هو حكم سلوك جماعي رغم أن الأفعال فردية، وروح كامنة تحاول أن تستمر في العيش وصناعة أمان ليطيب المقام.

المثال الأول: مواطنة المحافظات، ولقد أتت الفكرة واضحة من خلال قراءة الكثير من الأقلام المهتمة في هذا الجانب، هوية المحافظات الاقتصادية والاجتماعية تحتاج إلى جرأة وقدرة على الموازنة حتى تصل إلى تحقيق رؤية متجدده ومستدامة، مع القدرة على الحفاظ على هوية عمانية نقية أصيلة، وأرى أن لكل محافظة القدرة على الوقوف بذاتها اقتصاديًا وممارسة التدوير الاقتصادي بعيدًا عن الرعوية المالية، مع تمسك وحدة المجتمع حتى نحقق التوازن المطلوب؛ على المحافظة نيل قسط مناسب من جهدها الاستثماري للتعمير والبناء، وتحقيق المنافسة الإيجابية مع بقية المحافظات، وكُل حسب جهده على أن تكون ثمة رقابة ومتابعة للأداء بشكل مباشر، ولا بأس من بعض الفروقات والتباين في البدء حتى تستطيع كل محافظة استيعاب إمكانياتها وقدراتها وأيضا بناء الحوار الفكري وتعلم المحافظات بين بعضهم البعض. ومن التحديات الجديرة بالذكر انبلاج ما يُسمى بالفوضى الخلاقة التي ما هي إلا بيئة تسمح لصانعها بذكاء قيادة وتوجيه التغيير مع الإبقاء على ثوابت الهوية.

مواطنة المناطق الحرة، وهنا نتحدث عن تعاون مشترك بين شركات المناطق الحرة كنوع من الخدمة المجتمعية؛ حيث يشكلون لجانًا للتعاون فيما بينهم لدفع عجلة الاستثمار الاجتماعي/ المجتمعي، وهذا يصنع وحدة الأداء ويقلل من التكلفة الفردية على كل شركة وأيضًا اتساق المشاريع وتوجيه المجتمع الكائن حول المناطق إلى الاستفادة القصوى من أفضل الخدمات والمشاريع والدعم، وأيضا سهولة التنفيذ والتقليل من مشكلات التشغيل في مثل هذه المشاريع، وأرى أن إدارة المحافظات لهذه المشاريع استثمار جانبي من قبلها حتى تواكب رؤية المحافظة التي هي فيها واستراتيجياتها المتوسطة والطويلة المدى.

مواطنة المجتمع، إن أساس التغيير في أي مجتمع يبدأ من الطفل، الذي ننمي فيه ما يكبر عليه ويطبقه من عادات ومعتقدات وغيرها من فكر وسلوك، ومن هنا علينا التفكر جيدًا ليس فقط في المناهج؛ بل أيضًا سلوكيات وعقليات هيئات التدريس والمدربين والمؤثرين المجتمعيين، والاستفادة من ذلك لغرس سويٍّ يحافظ على روح المسؤولية والوعي والحكمة الاجتماعية؛ وأيضا العمل على صناعة بصمة وطينة من خلال برامج مكثفة تؤكد للمجتمع أن الهوية جزء من وحدة المصير ورفاهية البقاء في عالم يضج بالمتناقضات والخوف والتذبذب وعدم الاستقرار.  

سمو...

مراقبة الذات أهم من مراقبة الغير، فقد تنجرف في التقليد الأعمى وأنت مُنهمك بمنع الناس عن فعل ما بت تفعله معهم.

الخوف أمر مؤقت، لكن الندم حياة مؤرِّقة، فلنعي ونكُف أيدينا عن أذى يمتد إلى أبعد مما قد يُعتقد، ففي الأخير لا يحصل إلّا أمر الله في خلقه.