استثمار المعرفة

 

د. سيف الجابري

لقد خلق الله تعالى الإنسان واستودع فيه العقل وجعله بوصلة المعرفة واستثمر الحواس الخمس من خلالها للوصول إلى أفق التعاون والاستثمار المعرفي بين العقل والقلب حيث يكمل أحدهما الآخر وتكون النتيجة لاندماجهما وتوظيفهما بكفاءة في جميع مجالات الحياة إلى  الكسب المادي والمعنوي في خلق السعادة في الدارين لتكون سعادة الدنيا مزرعة الإنتاج المعرفي للآخرة، فمتى استيقظ القلب هم الآخر وزادت عنده المعرفة؛ حيث يسقط على الإنسان كل لحظة كم هائل من المعارف والمعلومات.

وفي ذلك الوقت الذي يستقبل هذا الكم الكبير من المعلومات والمعارف والمهارات، تحصل ردة الفعل في التمييز بين مجموعة الأشياء النافعة والضارة ومن خلال المسح السريع الذي لا يتعدى ثواني بين العقل والفؤاد حيث يرد شروح ذلك عند قوله تعالى "إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا" (الإسراء: 36)، وهنا تبدأ عملية استكمال الصورة الذهنية للإنسان حيث يتم قبول كل ما يرد عليه ويصبح هنا أسير المعرفة التي قام باستقبالها وبعدها يعمل على كيفية استثمار ما يصل إليه. وهنا ينقسم هذا الاستثمار المعرفي إلى نوعين عند الأفراد، النوع الأول إما يستعمله الإنسان في الخير ويثمر عطاؤه الرباني بالعمل الصالح والمنفعة الخاصة له والعامة للمجتمع للارتقاء بنفسه والنهوض والعمل من أجل بلده حتى يُحقق المعادلة الصحيحة في تحقيق ما استفاده في العمل الصالح، وذلك في شتى مجالات حياته وعلاقاته على كافة الأصعدة.

أما النوع الآخر فهو أن يتخذ الإنسان الشيطان وليًا ويجعل استثمار هذه المعرفة للشهوات التي تبطل عمل الصالحات وتجعل منه إنساناً لا يستطيع أن يقدم لنفسه أو لبلده أي شيء فيه مصلحة بل على النقيض يقوم بالضرر له وللآخرين.

فمثلًا عندما يفتح الإنسان عينيه على ضوء الشمس في أول طلوع النهار فيصل إلى عقله المعرفة بأنه جاء الصباح الباكر بما فيه ويفكر يستثمر هذا النهار بمدى معرفته بقيمة الشمس وبداية يوم جديد ونهار جديد رزقنا به الله وجعلنا فيه بأتم صحة ومن هنا يتكون عطاؤه وعمله في استثمار هذه المعرفة الربانية التي أعطاها الله سبحانه وتعالى له ولكل مخلوقاته؛ فالحيوانات تخرج من جحورها وأوكارها لتستفيد من هذه النعمة إلا أن الإنسان  تختلف لديه المعرفة.

هناك من يشهد صلاة الفجر وبعدها يبدأ يومه بكل تفاصيل الخير؛ لأنه صلى الفجر جماعة وبدأ يومه بالعمل الصالح ويرزق بعدها بالفهم الحقيقي المعرفي بمدى معرفة قيمة الوقت فيستثمر يومه مع شروق الشمس.

هنا نعود بالخطاب إلى قيمة استثمار المعرفة التي تجعل الإنسان بهداية النجدين إما طريق الخير الذي جعل القلب وعاء للشريعة التي شرعت له كل احتياجاته الدنيوية لبناء السعادة  له وللآخرين وبين طريق الشر الذي قد يُحقق له بعض جوانب السعادة الوقتية بالدنيا ولكن سرعان ما يخسرها وتكون عليه وباءً لأنَّ المعرفة الحقيقية هي استثمار الخير للخير مما يُساهم في بناء قيم الحياة المجتمعية المبنية على قيم الدين.

كما أوضح سبحانه وتعالى بدلالة الفهم "دينًا قِيمًا" الذي شرحه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

إنَّ قيم الدين هي الأخلاق الظاهرة والباطنة المتشابهة بين العبادات والمعاملات التي تعطي القيمة الحقيقية لاستثمار أفضل وقت وأعظم مال وأكمل عمل، وهو المعرفة التي يصل بها الإنسان إلى خالقه تعالى الذي هداه وأعطاه نعمة الحواس الخمسة التي تُميِّزه عن بقية الكائنات.

تعليق عبر الفيس بوك