علي بن مسعود المعشني
ما بين الاختلاف والتخلُّف قطيعة كبيرة في المعنى والدلالة، وإن كانا كمفردتين لغويتين مشتقتين من تكوين يكاد أن يتطابق، وحين أتأملُ- شخصيًا- حالنا كعرب عبر التاريخ واليوم وأُقارنه بمن حولنا، أجدُ أننا نختلِف عنهم، ولسنا مُتخلِّفين عنهم.
التخلُّف والتطور مصطلحان يُطلقان اليوم بالمُطلق في التوصيف دون دلالة دقيقة ولا معنى لغوي وفلسفي حصري ودقيق؛ فالتخلُّف نسبيٌ وكذلك التطور، وهما أقرب في التوصيف والتشبيه من تعريف الأُمِّيَّة كمثال والتي دأبنا على حصرها في القراءة والكتابة، بينما الأُمِّيَّة هي كل ما يجهله الإنسان فيُعتبر أُمِّيًّا به، من لغات وعلوم وتقنية ومهارات....إلخ.
والتطور مصطلح نسبي كذلك في معناه الدلالي والفلسفي، فقد يكون شعب ما أو بلد ما متطور في جانب تنموي أو معرفي ما، وفي المقابل يعاني من تخلُّف قِيَمِيٍّ أو مادي أو أخلاقي معيب، وهنا أهمية تخصيص اللفظ لا تعميمه وإطلاقه بلا ضوابط.
شخصيًا، أتقززُ من لفظة الجاهلية حين ترد كتعريف تاريخي زمني أو فكري وهي في حقيقتها زمن الجهل بالإسلام أي قبل رسالته، فقد اختزل العقل العربي الجاهلية بكل سوء وجهالة وانحطاط وهي لم تكن كذلك أبدًا؛ حيث كان العرب في الجاهلية قوم تؤطر سلوكهم الأخلاق العربية الفطرية وقيم الحنيفيّة الإبراهيمية وأتت الرسالة المُحمَّدية منهم وإليهم وعبرهم للعالم لتتمم مكارم الأخلاق؛ بما ينسجم مع تعاليم الإسلام والموروث القيمي الفطري زمن الجهل بالإسلام، والمسمى بـ"الجاهلية".
حين يزورنا الغربي القادم من مدنيَّات الغرب يفقد صوابه ويتوه في مفردات وتفاصيل الحضارة العربية الإسلامية وما أنتجته لنفسها وللبشرية من قيم ومعارف وعلوم ينهل منها ويبني عليها الغربي اليوم مدنيّته وتطوره التقني وعلومه ومعارفه الإنسانية والتطبيقية والتي لم يكن له الفضل- غالبًا- في ابتكارها أصلًا.
حين يتحدث الغرب اليوم عن العولمة ونهاية التاريخ ويعززهما بالمفاهيم والثقافات الغربية العابرة للحدود والأجيال، وكأنها الملاذ الأخير والحتمي للإنسانية، فهو في حقيقته ينطلق من نظرة عنصرية نرجسية جعلته يعتقد أنه محور الكون ومن ليس معه فهو بالضرورة ضده، ومن لا يُشبهه ولا يقتدي به ولا يُقلده فهو على خطأ!
المدنيّة الغربية حالة استثنائية في التاريخ الإنساني؛ فالغرب بنرجسيته لم يستوعب بعد أن المدنيّات لا تتغلب على الحضارات ولا تتجاوزها ولا تطغى عليها؛ فالحضارات أتت بعظائم الأشياء والتي نقلت الإنسان من البدائية ووضعته على طريق التطور والتحضر والاستقرار والبناء، من تقنيات زراعة ووسائل ري وتشريعات وأعراف تنظم حياة الناس وتحمي حقوقهم، وصولًا إلى أدوات ووسائل سهّلت حياة الناس وجعلتهم في مرتبة أعلى وأقوى من مفردات شريكة لهم في الحياة من حيوان ونبات وجماد، كأدوات الطهي والصيد والملاحة وحرث الأرض...إلخ.
بينما أتت المدنيّات لاحقًا بمنافع عامة، من خلال تطوير تلك الأدوات الحضارية ولكنها ليست- وكما يتصور والغرب وطابورهم- مكاسب تعادل الحياة بالنسبة للإنسان، وكما كانت في حين ابتكارها في غابر الأزمان. وفوق هذا فإن التحسينات وأعمال التطوير التي أحدثتها مدنيّات الغرب اليوم لا تعني السبق أو الهوية الحضارية أو من الثقافات الأصيلة التي يمكن تعريفها بأنها تتبع هذا الشعب أو تُنسب إلى تلك الحضارة.
قبل اللقاء.. يتلعثمُ البعض ويسخر البعض الآخر حين أساله: أيهما أهم لحياة الإنسان، السكين أم الحاسوب (الكمبيوتر)؟! الجواب يُعبِّر عن وعي الشخص وإدراكه الفارق والاختلاف بين الحضارة والمدنيّة، والأهم والمُهم.
وبالشكر تدوم النعم.