التقنية الرقمية تخدم التراث الثقافي غير المادي

مسقط- الرؤية

تعد المنطقة العربية مهدا للعديد من الحضارات العريقة التي وجدت على كوكب الأرض منذ فجر التاريخ، وهذا مكنها من أن تخطو مؤخرا خطوات هائلة وتبذل جهودا جبارة للحفاظ على مآثر وشواهد تلك الحضارات وصيانتها من عوادي الزمن.

ومن تلك الجهود المبذولة إنشاء منصة رقمية جديدة برعاية منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) وبتمويل سخي مقدم من المملكة العربية السعودية. وقد دخلت هذه المنصة حيز الاستخدام الآن، وباتت تقوم بدورها الفعال في تصنيف المواقع التراثية العالمية المنتشرة على امتداد العالم العربي. جاء إنشاء هذه المنصة في إطار مبادرة "الغوص في التراث" والتي يمكن أن يتسع نطاق عملها في المستقبل لربط جميع المواقع التراثية العالمية الهامة المنشرة على مساحة الكرة الأرضية.

مع التطور المتسارع في عالم الذكاء الإصطناعي وغيره من التقنيات ذات الصلة، بات بإمكان خبراء الهندسة الرقمية تطوير أساليب جديدة لحماية التاريخ والتراث، منها ما يجري الآن من تصميم مخطط متكامل لتصنيف الحضارات القديمة؛ بما في ذلك المواقع التراثية والحفاظ عليها ذخرا للأجيال القادمة.

تمت دعوة الحضور والمشاركين إلى العرض الأول من مرحلة التطوير هذه، والتي كرست لتدوين التراث منذ بدء المشروع الرائد العام الماضي، وخلال الدورة الـ45 الموسعة للجنة التراث العالمي التي عقدت في العاصمة السعودية الرياض. والسؤالان المطروحان الآن: لم كل هذه الأهمية؟ ولماذا يجب عليها أن نهتم؟

ثقافة حية وتراث بشكل عصري

ساد زمن عد فيه الإنتقال إلى وجهات بعيدة من العالم للتعرف على ثقافات وحضارات مختلفة حلما بعيد المنال بالنسبة للكثير من الناس، ولكن لم يعد الأمر كذلك الآن بفضل تمكن ثلثي سكان العالم من الوصول إلى شبكة الإنترنت والإطلاع على تلك الثقافات والحضارات بكل سهولة ويسر.

مع مبادرة اليونسكو الجديدة "الغوص في التراث"، باتت الفرص أكبر أمام الجميع للتعرف على المواقع التراثية العالمية المدرجة على قائمة التراث العالمي، وبصورة تفاعلية وباستعمال تقنيات الواقع الافتراضي والمضخم.

بفضل توفر البيانات وتمكن أي شخص أو شركة في العالم من الإطلاع عليها، فقد سهل هذا الأمر نمو ما يسمى بـ"السياحة الرقمية"، والتي يقصد بها استضافة الأدوات والأنظمة التي يمكن استعمالها لحجز الرحلات الكترونيا. وفي المستقبل، يمكن أن يعني هذا المصطلح الكثير. تخيل نفسك قادرًا على سماع الأصوات ورؤية المناظر؛ بل الاقتراب من المواقع الأثرية واشتمام عبق التاريخ الكامن خلفها وأنت على بعد آلاف الأميال منها، ودون أن تغادر منزلك! هذا الأمر، وإن حدث فسيفتح المزيد من الآفاق، ويسهم في "دمقرطة" الثقافة والتاريخ، وجعلهما في متناول بلايين البشر القاطنين على سطح الكوكب لتزداد بذلك معارفهم، وتغنى حياتهم، ويرتبطون ببعضهم أكثر وأكثر.

اكتشف التراث العالمي بالرسوم الثلاثية

تقوم مبادرة "الغوص في التراث" على الاستفادة من البيانات الرقمية التي جمعت سابقا ونشرت عبر المنصة الإلكترونية للمبادرة، والتي سوف تمكن زوارها من الإطلاع على التراث العالمي بسهولة. الرجاء الضغط على "شغل" لإظهار النماذج الثلاثية الأبعاد لموقع "الهجر" التاريخي.

إن أكبر كم من المعلومات التاريخية التي نملكها حول الحضارات البشرية يوجد إما بصورة غير موحدة أو منقحة، وفي العديد من الحالات، غير مصاغة بشكل جيد، أو عبارة عن شذرات وأشتات متناثرة عبر الشبكة العنكبوتية. ولكن الآن، وباستعمال التكنولوجيا، أمكن ترتيب تلك المعلومات وإرجاعها إلى جهة مركزية وإخضاعها للإشراف الأكاديمي والعلمي والبحثي الدقيق بغية تنقيتها للخروج في النهاية بقصة حقيقية ودقيقة حول الحضارة البشرية.

ويتصف التراث بأنه عنصر معنوي قابل للتطور المستمر، ولهذا السبب، كثير من عناصر ذلك التراث يمكن أن تفقد أو يساء تقويمها مع مرور الوقت. تخيل إن كان للجميع القدرة على الاستماع للغات القديمة بعد أن تبعث من جديد، أو لديهم القدرة على تفسير الرسومات المنقوشة على صخور يعود تاريخها لآلاف السنين بدقة بالغة، أو تخيل أنه بعد مرور 1000 عام من الآن، كيف يمكن للمعرفة والمهارة التي نمتلكها الآن أن تكون مصدرا للمعرفة أو الإلهام للأجيال التي سوف تأتي بعدنا؟

دعم التنمية المستدامة

إن استعمال التقنيات الرقمية في المجالات المتصلة بالتراث والثقافة سوف يسهم في زيادة القدرة على حمايتهما. وقد تبدى هذا من خلال عمليات التصنيفات الرقمية التي تقوم بها منظمة اليونيسكو اليوم لمواقع التراث العالمي بصورة أكثر فعالية ودقة. وهذا بلا شك يمكنه ليس فقط تعزيز قدرة اليونيسكو على التصرف بسرعة للحفاظ على النواحي التراثية الفريدة والقيمة؛ بل أن تكون المنظمة الدولية أكثر تحديدا فيما يتعلق بخياراتها في هذا الصدد.

في هذا العام وحده، قامت اليونسكو بدراسة 50 موقعًا تراثيًا جديدًا تمهيدًا لإدراجها على قائمة التراث العالمي، والتي تضم 1157 موقعًا من المواقع التراثية العالمية، كلها تمثل كنزًا ثمينًا بالنسبة للعالم. هذا عدا عن 56 موقعًا مدرجًا على قائمة المواقع التراثية المعرضة للخطر.

بديهي أن حماية التراث يعد محورًا مهمًا من محاور التنمية المستدامة الناجحة، وأن البيانات المتصلة بذلك التراث من شأنها أن تسهم في جعل الجهود المنصبة على حماية التراث أكثر تكاملا مع أهداف التنمية المستدامة لكل دولة من دول العالم.

بعد سنوات من الآن، سوف تكون النواحي الفريدة من تراثنا وثقافتنا هي ما تكلمنا حوله وناقشناه اليوم، ولهذا، من المهم أن يلعب كل منا دوره في الحفاظ على التراث وحمايته بأي طريقة يستطيعها، بما في ذلك التقنيات الرقمية، والتي تنطوي على إمكانات هائلة ومدهشة، لكي نحفظ للبشرية ذاكرتها من النسيان.

تعليق عبر الفيس بوك