قصة القرية العالقة (9)

 

 حمد الناصري

بعد توقف الحكيم  لبُرهة ، خرج مِن بعد صَمت، كأنّ  من بين يديه ما يُنقذ به تُراث القرية العريقة ويُخرجها من جائحة سرقة تاريخها المكين .. وقال وهو يستعيد افكاره رُويداً رويداً :

ـ الافكار التي أؤمن بها أكتبتها بيدي ، وتتجلّى بصراحة لتحجيم سُرّاق تُراث أمّتنا العريقة ، وتجريم الضالعين في سرقة تاريخنا العظيم ، منذ عهد الكذابين والمُتخلّفين عن ركب العهد الاول وتحريم الانجرار وراء الافّاكين وتجريم سُرّاق تاريخ القرية العالقة.. وأجدني أقف شامخاً ، مُدافعاً عن عمالقة التاريخ العظيم ، ورجالنا لا يُعجزهم مُزوري التاريخ والتراث فبأيديهم الحقيقة الناصعة ، ولديهم ما يُمكّنهم من المعرفة وظاهرة سرقة التاريخ وتحوير التراث ليست جديدة ، فبالأمس القريب ، كان تراثنا المحلي مُكَوّن معرفي وثقافي واسع ،  وحملت مُفرداته تراثيات تقليدية وامكنة ، وقضايا التراث تراكمية عبر أزمان قديمة وغابرة ، منذ العهد الاول ، وأولئك الرجال لا شهامة لهم ، ولا يخافون عاقبة أمرهم ، ونحن أهل القرية العالقة سنقف ضِدّ ظاهرة تزوير الحقيقة.؛

والسيرة الطيبة شهدت لنا العِزّة والتجربة التاريخية وأخرجت تجربة صَنعت أحداثاً من العِزة والمَجد العظيم ومُتوناً من المعرفة والثقافة والفن .

وفي ذلك الكتاب، أظهرتُ ما يُذكّرنا بماضي أجدادنا وأهلونا وبيّنت الصِلة القويمة بجذورنا العميقة ، عبر قرون خلت وخلقتْ عادات وتقاليد وقِيَم توارثها الاجداد والأبناء عمّن قبلهم  ، وتلك السِيْرة النبيلة ، حافظوا عليها واستمروا في نهجها عبر الازمان.؛

توقف بُرهة وسحب نفساً عميقاً والتفتَ إلى أحمد وقال :

ـ وأمّا سؤال الولد أحمد، لم أفقهَ كثيراً منه وليس لي دراية أو معرفة للخوض في مُتونه ومُناقشتهِ الان، ولكني أستطيع الإجابة عليه، إذا تهيّأتْ لي الأسباب بالعودة لتاريخ القرية.

ولا أنكر أني أكبر المُعَمّرين في القرية وقد شهدتُ بعض تقسيماتها على أثر انفصال القريتين؟.

 وحين سُئل أحد  الرجال عن دور الحزام الجبلي في حمايتها؟ فقال بلغة أطْمأنّ إليها .. قريتنا مَحمية بعناية إلهية ، وجبل الراس جسر صخري مُتصل بلسان بحري على الساحل المُهادن وأهمّ مَصدر للقرية العالقة.؛

سكت ثم التفت إلى أحمد وقال :

ـ دعني أعرّفك بصلة القرابة بيني وبينك.. أمّك بُنيّ من قرية صغيرة التصقت بالجبل الأعلى، وفي سَهلها بساتين وقريتكم تبعد عن قرية البحر بمسافة نصف نهار مَشياً وأبوك تعود أصوله إلى بلدة تاريخية تُجاور ذلك الامتداد الطُولي من البحر.

أشاح بوجهه قليلاً ثم ردّه إلى حمود وقال:

ـ  وأما سُؤالك عن القريتين وكيف سقطتا.؟ لقد وثّقتُ شيئاً قليلاً عن أحداث ذلك الزمن البعيد ، فقد وجدتُ في بعض كتب سيرة التاريخ للقرية ، بأنه حدث عُلواً كبيراً للبحر وحدث هبوطاً سُفلياً للأرض، وعلى أثرهما حدثت انزلاقات صَخرية نتيجة تصدّعات عميقة لامَستْ قوتها الارض ،  فتصدّعت قشرة الارض العميقة وانفصل الماء ، فصار جزء منه ضئيل ، ضَحْل لا تسير به سفن كبير لكثرة العوالق الصخرية، وانفصل عن الجبال العالقة ، والجزء الآخر عميق وهو من نصيب القرية العالقة ، ذلك البحر عميق وعلى رأسها يقف فكّ الاسد شامخاً .

 وقد دوّنت حكاية مروية عن حقيقة البحر  المفتوح ، بأنه غضب يوماً غضباً شديداً ناحية المَمر الضيّق وكانتا القريتين المُتجاورتين تقعان في مياهٍ مُتصلة بالبحر إلاّ أنّ طرفها غير الصخري الاقرب إلى اليابسة قد جفّت وأبْدلت رطوبة البحر الفوقية والتحتية مُلوحة جافة تصلّبت بفعل اختلاط المُلوحة برمال خفيفة  جافة ، وزادتها حرارة الشمس صلابة ، فصارتْ قِشْرتها صَلدة ، وانْصَهرت على مرور الزمن بمياهٍ رطبة وبعد زمن غير قريب ، أحدثتْ شُقوقاً وأخوار اكتشفها البحارة ، فكانت ملاذاً لقراصنة البحر.

ويطلق البحارة على الجبل المُطل على الممر البحري العميق  بالراس الأصَمّ ، والسفن العابرة تغرق او تصطدم برؤوسه السبعة ، وتلك الرؤوس واقعة بين البحر العميق برأس الأسد ، وقرى الساحل المُهادن ، وقرية الراس كانت امتداداً إلى ما بعد البحر الضّحْل .؛

  وأهل تلك البلاد مارسوا سطوتهم على قُرانا الجبيلة المُحاذية للراس الاعلى ولكنّ أهل قريتنا العالقة كان جأش رباطهم أقوى من رباط الجبال الصَمّاء ، والقرية العالقة قوية شامخة كأنها ضُربتْ بسُور له باب عَميق ، جباله امتداد لسلسلة حزام شرقية وغربية ، عُرفت تلك السلسلة بالحَبل السري.؛

والحقيقة بُنيّ، أؤلئك الأصْلاب ، رجال أشرار لا مأمَن لهم، لم يتركوا القرية مُطمئنة، يُهادنونها مرة ويَغزونها مرة أخرى، ولا ريب فقد استوطنها الكثير منهم في كهوفها العميقة وفي أخوارها وخلجانها الآمنة، وأضحت مَرتعاً خصباً للهاربين منهم .

وأما الساحل الغربي المُهادن ، عُرف بإسْمنا حتى وقت قريب وكثيرة هي المراجع التاريخية التي أقرّت للبشرية بتاريخنا العظيم ووثّقت سجلاتها ثقافة حافلة بنبض ثقافة الحياة بين الناس وزاخرة بالقِيَم الانسانية .

وقرأتُ ذات مرة ، بأنّ العوالق البحرية تترسّب في قاع البحر، ثم تنقلها إلى الارض المُسطحة ويَطلق عليه العابرون بـ أخوار الملح، وهي عبارة عن رواسب مائية ملحية تتحوّل بعد زمن إلى رواسب ملحية صَلبة ومع مرور الزمن تتحوّل إلى عوالق صخرية.

والحقيقة التي لا مناص عنها ، أنّ قرية عُنق البحر او الراس العالق ، قريتين مُلتصقتين ببعضهما منذ التكوين الاول وعلى مُنحدرهما زلقة على حافّة صخرية صَلبة وفي جُبّهما الاعمق جبال صَمّاء وبحر غليظ وعلى الاخرى أخوار وكهوف ونتوءات كوصلة لسان يَنتهي بها إلى حافة مُنخفضة ، تصل أطرافها إلى يابسةٍ حوافّها بين رملية ومَلحية .؛

تعليق عبر الفيس بوك