لن تكسب الحكمة دون ألم

د. قاسم بن محمد الصالحي

كلما تأملنا في أسرار حياتنا التي نعيشها، وفي طبائع الأشياء، ظهر لنا جليًا أنه كلما امتلكنا رؤية أعمق وأشمل لواقعنا، ظهرت حاجتنا إلى أن لا نثقل كاهلنا أكثر مما تحتمل أنفسنا، نزولا عند قوله تعالى: "لا يُكلّفُ اللّهُ نفسًا إلّا وُسعها"، بمعنى أن الله لا يُطالبنا ولا يُحملنا ما لا يدخل تحت طاقتنا، أو يشق علينا مشقة كبيرة، ولكننا كثيرًا ما نحمّل أنفسنا ما لا تُطيق ونتحسر على الأشياء في حياتنا، ونعبّر عنها آهات ونكتبها قصائد وقصصًا.

فهل يكتب المرء أنفاسه التي تتردد، أو قطرات دمه العابرة في عروقه، أو أقسام روحه الهائمة؟ الذي يتكلم أو يكتب عن الآخرين يكتب ليُعبر عن نفسه، فكيف إذا كان الآخر هو النفس والنفيس والروح الساكنة في الجسد، وعادة ما تبدو الإجابات ذات طابع خيالي، إما مُغرقة في التفاؤل أو على النقيض، إجابات غارقة في السوداوية التي تنظّر لواقع مليء بالمشكلات والأزمات والبؤس، ومقالنا هذا نبدأه بسؤال مفاده هل كسبنا الحكمة لفهم حقيقة واقعنا الذي نعيشه كُلما هبت ريحُ الخطر على قيم مجتمعنا وجماله؟ وكيف يمكن أن يتجرد كل واحد منا من رداء الفردية الزائل ليدخُل معبد الفكر الخالد ويتكلم باسم المجتمع الواحد المُتحد.

الفرد منَّا والمجتمع وجهان لعملة واحدة؛ حيث تعد علاقتنا ببعض علاقة تبادلية بصفة عامة يعتمد فيها كلٌ منَّا على الآخر ونؤثر في بعضنا البعض، وحين يعرض الفرد منَّا نفسه لابتلاءات قاسية فإنه يضع نفسه ومجتمعه على حافة الخطر؛ حيث لا ضمانة لصبره على ما جره لنفسه من البلاء، ولا ضمان لنجاحه في الاختبار الصعب الذي قرر الدخول فيه، وقد نرى ونسمع الكثير الكثير من نكثوا على أعقابهم نتيجة تحميلهم لأنفسهم ما لم يحملهم الله تعالى إياه، وكانت النتيجة أنهم فقدوا الحكمة وانتهوا إلى لا شيء، لا كم ولا كيف، لأنَّ كل شيء نحمله فوق طاقته سنخسره أو نكاد.

خسارتنا لما نحمله فوق طاقته أشكال وألوان، قد تتجلى الخسارة في فقد الشيء وانعدامه، كما لو ضغطنا على كأس زجاج رقيق أكثر من طاقته على الاحتمال فيصبح عدما، وقد تتجلى الخسارة في فقد الوظيفة، والخسارة في بعض الأحيان تأتي في فقد فاعليتنا، وقد تتجسد الخسارة في عدم القدرة على الاستمرار.

 

هذا الألم سيظل موجودًا دائمًا ضمن واقع الحياة المجتمعية، ولكن ماذا عن واقعنا الآن؟ ونحن بصدد سطوة وسائل التواصل الاجتماعي حيث استشراء ظاهرة الرسائل والتغريدات، هل يُشكِّل هذا الفضاء الحيوي الجديد ميدانًا للخسارة والألم؟ أم أن الحكمة ستكون حاضرة تقصي الألم وتطرد الخسارة؟ بحيث تحظى الحكمة بالمكانة والحضور المنشود في فضائنا الافتراضي؛ سواءً على صعيد الموضوع أو الشكل، وعلينا أن نضع نصب أعيننا أننا لا نستطيع اكتساب الحكمة كما لو أنها لغة جديدة نتعلمها، أو على أنها دورة تدريبية بعد أن نجتازها سنجد الحكمة، ولكن هناك منهج سلوك فردي يصبح صاحبه في دائرة المجتمع حكيما تدريجيا، أو على الأقل يستطيع أن يتصرف بشكل يحميه ويحمي مجتمعه من أن يتخذ أي قرار انفعالي خاطئ في ساعة غضب، لكون أن الحكمة تبعده عن اتخاذ أي قرار لم يخضع للدراسة أو التخطيط وتحليل النتائج، والوقوف على السلبيات والإيجابيات، وتساعده الحكمة على تطوير علاقاته الاجتماعية من خلال عدم التسرع أو إطلاق الأحكام على الغير دون البحث في المشكلة، والتماس العذر للآخرين، وذلك في حال صدر خطأ سبب له ألمًا؛ لأن كل ذي حكمة يثق بنفسه وفي الخير الذي يحمله بين يديه، ولكل حكيم مكانة كبيرة وشأن عالٍ، وشعور دائم بالتفاؤل والقدرة لإيجاد الحل المناسب لكل مشكلة أو ألم أو فقد.

تعليق عبر الفيس بوك