وتلك الأيام

 

مصطفى البعليش **

 

أمسك مقبض الألمنيوم وأدفع الباب الزجاجي وأدخل الوكالة البنكية أتذكر تلك الأيام البعيدة وأنا برفقة والدتي نفتح الباب الخشبي لهذه الوكالة نفسها والظلام لا يزال يسدل رداءه على مدينتي الصغيرة والبرد القارص يغرس إبره الحادة في جسدي النحيل.

أنا الآن أكرش وغليظ، بطني تلج الوكالة قبلي بزمن مهم فتستقبلني ابتسامة إسماعيل وتحية أمال وترحيب حسن. أجلس على أريكة مريحة وأضع رجلي مكان كنت أضع السطل وأغطس الجفاف في ماء صقيعي ثم أعصره بيدين رقيقتين كان من المفروض أن تحمل الأقلام والملونات وتلهو باللعب.

تلك الأيام كنت أحاول فيها مساعدة والدتي التي تتحامل على أمراضها المتعددة؛ حرارة  تجاوزت المعدل الطبيعي، رجلان يعانيان من أجل حمل الجسد المنهك، تتناسى كل ذلك فتمسح المكاتب وتجلي المرحاض والمغسلة، وكنَّا خلال ذلك في صراع مرير مع عقارب الزمن، حتى لا تدركنا الثامنة صباحاً موعد أول حصص الدراسة، قد تتحمل الوالدة سعير صقر ولا تتحمل ضياع ساعة دراسة واحدة. فكل ما تبدله من تضحيات لهدف واحد وهو أن يكون لأبنائها شأن. فقد كانت تنطلق من مبدأ راسخ هو أن الدراسة وحدها الكفيلة بوقف مسلسل المأساة، وحتى لا ترى توابع لهذه المرارة في عيون أبنائها، وأحفادها.

الطفل الذي كنته كان يعشق النوم ولا يستطيع مفارقة وسادته. فهو لا يضع عليها رأسه فقط بل يحضنها ويعصرها في صدره. ومع هذا كان يحب والدته أكثر ويشفق عليها أعمق. كانت تجهد نفسها من أجل سعادة أبنائها.

أذكر حديثا طريفا لصديق حول مشاهداته في سيرك حيث كان أبطال أحد العروض أسرة يتسلقون بعضهم البعض فيرتفع أعلاهم أكثر من خمسة أمتار عن الأرض. ويذكر أن المحمولين كانوا خمسة والسادسة التي تحمل ثقل الجميع هي الأم.

أظن والدتي تختلف عن هذه المرأة، فسيدة السيرك تحمل أسرتها لدقائق وقل ساعات، أمي حملتنا سنوات طويلة، بلياليها القاسية والطويلة، بردها وحرها، صيفها وشتائها، كانت في ذلك الأم وهي الأب وهي الأخ. هي أول من يستيقظ وآخر من يخلد للنوم.

هي من تحمل أعباء الجميع. تعد لهذا ما يحتاجه فهذا لا يحب الخرشف ولا يطيق نسمته في الطعام. وذاك يرتعب من اللفت وقد يتقيأ إذا أكله وهو يحسبه البطاطس. ترعى الجميع فيما يطلبون. تجعل من خرابتنا جنة. فردوس يزوره الجيران القريبون والمعارف البعيدون. كل شيء منظم مرتب وهي تعتني بالنباتات كما تعتني بأولادها. حين تدخل مسكننا تجده حديقة غناء. تعد لأبنائها وضيوفها أحلى وألذ الفطائر "بغرير والرغايف". وتعد شايا تستقبلك رائحته الطيبة من باب الحومر. تقصدها جاراتها في كتابة الرسائل. فأسلوبها الشيق، وهذا وجه آخر من طيبتها ولطفها.

كنت أحب مساعدتها في المنزل كما في العمل. وكنت حين أنتهي من التجفيف ينسكب عرقي فتدغدغني البرودة وتتسلل تحت ملابسي؛ هي أشبه بما أحسه الآن وبرودة مكيف الهواء تدغدغ جسمي المتعرق بصهد غشت.

** كاتب مغربي

تعليق عبر الفيس بوك