محمد بن رضا اللواتي
تُشير بعض الاستطلاعات حول أسباب ترك حوالي 49 مليون موظف لوظائفهم في شتى مناطق العالم خلال عام 2021، واستقالة قرابة 50 مليون عامل في العالم في عام 2022 كان لعدة أسباب وحُظي المدير السيئ بنصيب الأسد بصفته السبب الأكبر في تلك الاستقالات، في حين جاءت في المرتبة الثانية الرغبة في مزيد من المرونة في توقيت العمل، واحتلت البيئة السامة السبب الثالث، وكانت زيادة في المزايا السبب الأخير في قائمة أسباب ترك الوظيفة.
فإذا كان المدير أو القائد هو المسؤول عن أغلب حالات ترك العمل، فالسؤال الذي يفرض نفسه هو: ما هي الضمانات التي ينبغي أن تشدد المؤسسات على توفرها في المدير الناجح؟ وهذا السؤال لا يختص بمدير الدائرة أو القسم، وإنما يطال المدير المنتدب والمدير العام والرئيس التنفيذي في مؤسسات القطاع الخاص، والمدير العام والوكيل والوزير في المؤسسات الحكومية.
مبدأ التواصل المُستمر
تتفق كلمة خبراء إدارات الموارد البشرية بأن المدير أو القائد المعزول عن موظفيه، والذي يتوارى خلف مكتبه أغلب الوقت، لا يمكنه أن يكون قائدا ناجحا، والمؤسسات التي رضيت بمدير على هذه الشاكلة عليها أن تتوقع أنواعا من المشاكل بما فيها تلك التي تتعلق ببقائها في السوق أو بسمعتها.
في بعض البلدان، يتحول المسؤولون الكبار إلى شخصيات شبه مُقدسة، ابتداء من الإتيكيت الذي يفرضونه على أجواء اجتماعاتهم مع نظرائهم من الموظفين، مرورا بعدم الالتقاء بهم وعدم منح المواعيد إلا بنظام مشدد، انتهاء بتحويل مديري مكاتبهم إلى نماذج من شخصياتهم، يتصرفون كيفما يشاؤون باسم أولئك الرؤساء وفق المثال الذي يقول بأن سائق الملك ملك!
هذه الحالة ظهرت كذلك في المؤسسات الكبيرة، إلا أنها ومع تطور علم إدارة الأعمال، تراجعت إلى حد كبير، فلقد أضحى اليوم واضحاً للعيان أن هكذا إدارات لم تعد تستطيع تحقيق النجاح وكسب الرضا على الإطلاق.
المدير القابع خلف المكتب والذي أغلب الوقت يكون باب مكتبه مغلقًا لم يُعد مطلوبًا على الإطلاق في المؤسسات الناجحة؛ لأنه وببساطة عاجز عن التواصل مع موظفيه، ومن المتوقع جدًا أن الإدارة من خلف الأبواب المُغلقة مصيرها الفشل في تحقيق الأهداف المرجوة لأية مؤسسة تسعى للنجاح.
من هُنا، فإنَّ المهمة الأولى والأساس للقيادة الرشيقة هي الاهتمام بالموظفين ومعرفة احتياجاتهم ثم العمل على توفيرها. هذا العنصر بات ليس فحسب العنصر الجوهري في شخصية المدير والقائد الناجح، وإنما عنصرا أساسيا لنجاح المؤسسة وقدرتها على تحقيق أهدافها.
يتمخض عن ذلك:
أولًا: الاجتماعات الدورية مع الموظفين.
ثانيًا: الإصغاء الجيد للمقترحات والمصاعب التي تواجه تحقيق الاستراتيجيات
ثالثًا: المرونة في تقبل النقد وإيجاد التغيير السريع من النهج المتوقع فشله إلى النهج الذي يقترحه أعضاء الفريق ويؤكدون على نجاحه.
يقول أحد خبراء تنمية الموارد البشرية العمانية: "عملت عدة سنوات في إحدى شركات التمويل تحت قيادة رئيس تنفذي وافد، كان يستمع بشكل جيد ودقيق ليس فحسب لما يقوله الموظفون، وإنما كان يستمع حتى إلى شهيقهم وزفيرهم وهم يتحدثون! لقد كان يمتلك مرونة عالية للتغيير، بحيث إنك وبعد سنوات من العمل، إن أثبت له بأن هذا النهج لا يؤدي إلى النتائج المرجوة، يتخذ قرار التغيير الفوري ولا يبالي بكل السنوات التي مضت على النهج الخاطئ".
هذا الخبير يضيف أنه لاحقًا عندما انتقل إلى مؤسسة مالية أخرى نظير وظيفة مرموقة براتب كبير، اصطدم بمُدير من طراز آخر تمامًا، لا يتمتع بنصف صفات القائد الذي سبق وأن عمل معه. والأسوأ أنك إن برهنت له خطأ الاستراتيجية المُعدة للعمل، وإن بعد مرور أسبوع على إعدادها، تجده يتلكأ عن اتخاذ القرار السليم في تصحيح المسار، ويبرر بأنه قد مضى أسبوع من الآن على العمل بهذا الأسلوب وعلينا أن نمضي إلى الأمام لنرى أين نصل!
ويمضي يقول: "لقد كنتُ أرى منافسينا يفتحون فرعا تلو فرع في المناطق الهامة من السوق، في حين ظللنا نحن على حالنا لا نتقدم، ومن المؤسف أنَّ مجلس إدارة الشركة لم تستطع أن تكتشف أن رئيسها التنفيذي هو السبب في عجز الشركة عن تحقيق أهدافها".
الخطوة الأولى
لكن كيف يمكن أن نتجنب وجود هكذا رؤساء ومسؤولين؟
الحقيقة أن الخطوة الأولى تبدأ عند توظيف المديرين؛ فالخبرة وحدها والشهادات وعدد دورات وورش العمل لا تكفي للاهتمام بها، وإنما ينبغي اكتشاف أنماط تلك الشخصيات التي سيتوقف لاحقاً مصير المؤسسة على أدائها وأسلوب إدارتها لموظفيها. وهنالك اليوم العديد من الأساليب والاختبارات الناجحة والكاشفة لأنماط الشخصيات والتي يمكن استخدامها أثناء مقابلات التوظيف من قبيل اختبار "Briggs Myers" والتي تساعد على اكتشاف كيف يتخذ المسؤولون قراراتهم.
قياس الأداء
الخطوة الثانية تتمثل في وجود نظام متقن لقياس الأداء اليومي والذي لا بد من توفره، والذي ينبغي أن يتم تطبيقه على أصغر موظف في الدائرة إلى أكبر مسؤول فيها.
وبالمناسبة، فقد أصدرت وزارة العمل قرارًا وزاريًا في يناير العام الحالي يقضي بإصدار نظام قياس كفاية الأداء الوظيفي؛ حيث تسري أحكام هذا النظام على جميع موظفي وحدات الجهاز الإداري للدولة "المدنية" وغيرها من الأشخاص الاعتبارية العامة الموجودين في الخدمة لمدة تزيد على 6 أشهر، وتتخذ الوحدات الحكومية المخاطبة بأحكام هذا النظام الإجراءات اللازمة لتطبيقه ووضعه موضع التنفيذ.
لا شك في أن هذا القرار خطوة هامة للغاية نحو المسار الصحيح، وحيث إن تطبيق هذا النظام يعتمد على خطة سنوية لإدارة ومتابعة تطبيق النظام، وتعتمد من رئيس الوحدة، ومعنى هذا أن رئيس الوحدة هو اللاعب الأبرز في التأكد من دقة هذا النظام وقابليته لتحقيق أهدافه. أي إننا نعود آخر المطاف إلى "المدير" الذي ينبغي أن يكون قد مر من اختبارات كشف الأنماط وتأكدت المؤسسة من كفاءته لقيادة دفة هذا النظام والموظفين بأفضل الأساليب لأجل تحقيق الأهداف المرجوة.
أسوأ الممارسات
يرى مجموعة من خبراء تنمية الموارد البشرية أن من أهم أسوأ الممارسات التي من المحتمل جدا أن يقع بعض المديرين ضحيتها هي تغاضيهم أولاً عن تفشي حالة "المنفى الوظيفي"، ووقوعهم في أسر مبدأ المُحاباة والألفة القائمة على التنميق.
السببان السابق ذكرهما يمكنهما إحالة بيئة العمل لبيئة سامة تتسبب في هروب الكفاءات وهجرة الإبداعات من تلك المؤسسات.
يُقصد "بالمنفى الوظيفي" وجود مجموعة من الموظفين بلا وصف وظيفي وبدون مسؤوليات محددة ثابتة يمكن قياس أدائهم وفقها. ومع مرور الوقت سيكون دافع حضور هؤلاء إلى العمل ليس لغير تسجيل الحضور، بحيث أنك قد تصادف وأن تجدهم بعضهم في أحد مقاهي مركز تسوق قريب أو ناد رياضي في أوقات العمل الرسمي، ذلك لغياب المسؤوليات المحددة والمهام الوظيفية التي يطلب إنجازها يوميًا، وتقبل أن تكون لها مؤشرات ومعايير قياس!
ويُقصد بمبدأ "التنميق" إرضاء المديرين، ليس بجودة الأداء، ولا بالأفكار المبتكرة، وإنما عبر الكلمات المنمقة والإشادة الكاذبة والتملق على هيئة تعظيم الشخصية، حتى يحظى أصحاب هذا السلوك ببرنامج تدريبي في بلد أوروبي، أو بتقرير جيد، أو بفرصة حضور مؤتمر!
تتحدث إحدى خبيرات التنمية البشرية عن أنه في إحدى المؤسسات تم اختيار فريق لتمثيلها في مؤتمر عالمي، وفق المحاباة، وأُهملت الكفاءات الشابة لتمثيل هذه المؤسسة، وعندما لم يجد المدير المسؤول المبررات المنطقية ليعتذر بها عن عدم اختياره للكفاءات لتمثيل المؤسسة، لجأ إلى "الطرافة" ليجعل الأمر هينًا بتحويله إلى دُعابة من قبيل أن الفنادق قد امتلأت عن آخرها!
قاعدة الاستغناء والاستبدال
لا شك سيظل اللاعب الأبرز في تحقيق النجاحات، وتحويل الأهداف المرجوة إلى منجزات هو "المدير"، فهو المسؤول عن تفشي حالة إهمال الابتكار بحيث تتحول بيئة العمل إلى حاضنة للمحاباة على حساب الأداء، ولا شك أن مجالس الإدارات تتحمل جانبا كبيرا من هذه المسؤولية لأنها وقت تعيينها للمدير، قد لا تبذل الجهد المطلوب لاختيار العناصر الناجحة، ومن المؤسف أن نجد أنه وفي بعض البلدان لا يزال نهج "التوظيف بمكالمة واحدة" معمول به!
يميل أغلب مسؤولي الموارد البشرية إلى أن تغيير أداء المديرين الفاشلين بإشراكهم في دورات تدريبية قد لا يكون مجديًا كثيرًا؛ ذلك لأن لأنماط الشخصيات دور محوري في الأداء الذي يظهر من أولئك المديرين، ويعتقد هؤلاء الخبراء أنه من الأفضل في هذه الحالات تغيير هؤلاء والبحث عن كفاءات أخرى لإدارة الدفة بتطبيق قاعدة "الاستغناء أو الاستبدال" الفورية لإعادة الحيوية إلى المؤسسة. المذهل في الأمر أننا قد نجد عجزا ذريعا ولسنوات في تحقيق الأهداف، بل وربما غياب الأهداف نفسها وعدم وجود استراتيجيات واضحة المعالم معلنة ومتاحة للنقد، ومع هذا فإنَّ أولئك الذين يتربعون على كراسي أعلى الهرم لتلك المؤسسات يظلون على حالهم وكأن شيئا لم يحدث قط!