المُهر.. أسطورة اللبان والنوق

سالم الكثيري

 

أودُ أن أنوه في البداية إلى أنني كتبت عنوان هذا المقال منذ زيارتي لموقع "منزلة المُهر" الشهيرة قبل ثلاثة أعوام، إلّا أنني أحجمتُ عن الكتابة؛ لتفادي أية أخطاء معلوماتية، لكني قررت نشره اليوم على ضوء انعقاد ندوة اللبان والتراث الثقافي التي نظمها الفريق البحثي لمرويات الحياة الاجتماعية الخاصة باللبان، لعله يقدم إضافة ما، ويكون بمثابة طرف خيط لمزيد من المعلومات الغائبة في قصة المُهر.

كانت تجارة اللبان رائجة في الفترة التي ولد فيها بطل قصتنا بخيت سالم مليزي الكثيري المعروف بالمُهر (بضم الميم) في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين على وجه التقريب وكان من يمتلك النوق حينها يمتلك الشيء الثمين. فقد كانت هي وسيلة النقل في الصحاري والسهول والجبال، بل وفي المدن أيضًا. وكان حليبها العذب مطلب الغادين والرائحين وكانت قبل هذا وبعده هي التي تحمل اللبان من منازله البعيدة الوعرة إلى مدن ومرافئ ظفار لتنقلها السفن بعد ذلك إلى موانئ اليمن والهند والخليج العربي.

نشأ المُهر في أسرة ريفية تعيش حياة بسيطة في جبل بيت زربيج المعروف حالياً بجبل إتين حاله كحال معظم أقرانه، فقد كان ذلك قدرهم المحتوم حيث كانت قلة ذات اليد الكابوس الذي يجثم على صدور الجميع، إلا أنه لم يستسلم لهذا القدر وكان توَّاقًا لأبعد من ذلك بكثير، لقد كان يرمي لامتلاك إبله الخاصة به، على الرغم من امتلاك والده لعددٍ قليل منها، لكن كيف لشاب مُعدم في زمن العوز والفقر أن يمتلك ما عزَّ حتى على الميسورين امتلاكه؟!

هذا السؤال الذي يبدو أنَّه تبادر إلى ذهن بطل قصتنا الأسطورية- المُهر- وهو اللقب الذي يبدو أيضًا أنه اكتسبه من شخصيته الجامحة التي لا تقبل الضيم أو تستلم للواقع المرير الذي تعيشه بل كانت تواقة إلى آفاق أوسع وأرحب. وكانت الإجابة واحدة فقط لا غير ألّا وهي الحصول على اللبان "الذهب الأبيض" و"العملة الصعبة" في حينها وهذا ما تحقق له بالفعل مع مرور الأيام.

ففي لحظة فارقة من حياته قرر المُهر خوض مغامرة شبه مستحيلة تكاد تكون ضربًا من الخيال، ولتكون فيما بعد إحدى أساطير وقصص اللبان في ظفار؛ حيث توجه وهو شاب في الثلاثين من عمره على وجه التقريب بأدواته البسيطة إلى منطقة مقطوعة لا يفد إليها بشر ولا تصل إليها طريق، ولا يتوافر فيها الماء، فأسس منزلة للبان في وادي "صواع" أعالي ما يُعرف بوادي عدونب حاليًا، والواقع بين منطقتي ريسوت والمغسيل؛ ليعمل فيها لسنوات طويلة ويجني كميات كبيرة من اللبان؛ فيبيعها ويفدي بثمنها إبل والده "بنات حرير" التي قرر بيعها لضائقة مالية ألمّت به، ليمتلك المُهر الإبل من حُر ماله، ويقول قصيدته الشهيرة التي مطلعها "بخيت يستاهل لبنهن... شنين بنات حرير"؛ حيث تمثل هذه السلالة واحدة من أشهر وأنجب السلالات في ظفار وما زالت في حوزة ورثته إلى اليوم، وليصبح المُهر مضرب مثل في العزيمة والإصرار، حتى إنه عندما يود شخصٌ أن ينتقد شخصًا قليل الجهد أو مُهمل لعمله أو ماله يقول له باللغة الشحرية /الجبالية (أول خودومك هيش // هيسن علاباك عيجام هيس المُهر لو)؛ أي أنك لم تشق الصخر وتشقى على هذا المال مثل المُهر.

لقد خلّد المُهر اسمه في التاريخ وأبهر الجميع بصنيعه العظيم، فإذ لم يكن بمقدوره أن يستأجر "منزلة لبان" مثلما هو متعارف عليه بين التجار وأصحاب المنازل، أنشأها من العدم وفي موقع صعب المنال لا يخطر على بال حتى أكثر المغامرين جسارة.

ولهذا فقد حيكت حول قصته الكثير من الروايات مع مرور الزمن، فهناك من يقول إنه استمر في العمل سنتين متواصلتين قبل الرجوع إلى أهله، وهناك من يقول إنه استمر في العمل 4 سنوات أو أكثر، مكتفيًا بزيارات قريبة من أم عمر بن مسلم أسلم الكثيري كل شهرين أو ثلاثة، وبحسب حفيده لابنته سعيد سالم علي آزاد الكثيري، فقد ذكر له مسعود بن عوض نصيب كيكاب الشحري أن والده عمل في نفس المنطقة بالقرب من المُهر لمدة أربع سنوات، ثم انتقل للعمل في منازل اللبان باتجاه جبل سمحان لمدة أربع سنوات أخرى، وترك المُهر الذي أكمل ثماني سنوات في منزلته، وهذا هو القول الذي أُرجِّحه قياسًا على الكميات الكبيرة المُستخرجة من اللبان والذي يحتاج إلى سنوات من الجهد والعمل، كما إن هناك من يقول إنه كان يخصص يومًا لفتح طريق الركاب التي ستحمل اللبان ويومًا لاستخراج اللبان، ويومًا ثالثًا لجلب الماء من مكان بعيد جدًا.

وقيل إنِّه كان يحمل اللبان نهاية كل موسم على عشرات الركاب ويبيع في السوق، وقيل إنه لم يحمله إلا دفعة واحدة؛ حيث استأجر 100 ناقة، وذلك نظرًا لبُعد المسافة ووعورة الطريق التي شقها. وعندما وصلت قافلة اللبان إلى صلالة خرج كل النَّاس لمشاهدتها؛ وذلك لكثرة أعداد الركاب وكمية اللبان الكبيرة المُحمَّلة. ومهما اختلفت الروايات إلّا أن الخلاصة المتفق عليها أن الرجل قام بما لم يقم به غيره من قبل وسجل سابقة تاريخية وحقق هدفه في نهاية المطاف.

ذهبتُ شخصيًا إلى موقع المنزلة بمعية حفيد المُهر سعيد، وبصحبة خبير الطرق سعيد محمد التاجر الشحري، وبعض أقاربه الشباب، والباحث والروائي محمد الشحري مؤلف رواية "موشكا" التي تحدث فيها عن شجرة اللبان، والشاعر علي العامري؛ وجميعهم من المهتمين بتاريخ اللبان، ووقفنا على الطريق الوعرة والطويلة والتي أُقدِّرها بعدة كيلومترات التي شقها المُهر، وكانت بالفعل خير مثال على المقولة الشهيرة "لقد شق فلان الصخر".

هذه قصة مروية نسمعها على لسان آبائنا وأمهاتنا وأجدادنا منذ طفولتنا، وعشنا جزءًا منها بحكم معرفتنا وجيرتنا لأحفاد المُهر؛ وهي قصة متفردة وملهمة لأبنائنا الشباب، وذلك فيما يُعرف اليوم في مفهوم الإدارة الحديثة بتحويل التحدي أو المشكلة إلى فرصة للنجاح، وهي جديرة بالتأمل والدراسة من قبل الباحثين، ولا شك أن هناك قصصاً أخرى في مختلف وديان وشعاب وصحاري ظفار بحاجة إلى أن تروى وتوثق.

************

هوامش:

•     المُهر: هو بخيت بن سالم بن مليزي بن عليووت بيت علي بدر الكثيري من مواليد 1890- 1900 على وجه التقريب، وتوفي عام 1983م.

•     وادي صواع: منزلة اللبان التي عمل فيها المُهر وتقع أعالي منطقة عدونب حاليًا.

•     علاباك عيجام: هو موقع وعر لا تصل إليه طريق، وهو على مقربة من منزلة صواع التي عمل بها المُهر؛ وهو رمز للمشقة وانقطاع السبل.

•     بيت زربيج: المنطقة التي تعرف حاليًا بجبل إتين.