هندسة التكوين المجتمعي الإنساني

 

 

إبراهيم بن عبد العزيز الزعبي

 

"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (13: الحجرات).

في الحقيقة يدهشني البعض عندما يتجاوز المفهوم والمُراد الكلي من الآية السابقة فيجعل البشرية تنقسم إلى نوعين من حيث خلق الله لهم: الأول: مجهول النسب منفك عن الروابط الأسرية بعيدا في نمط وأسلوب حياته عن فلك الجماعة والقبيلة وهم الشعوب كما يزعمون.

والثاني: معروف ومحفوظ النسب وهم القبائل التي تهتم بأنسابها وروابطها وتوثيقها وتفعيلها مصورين بذلك أن روابط الدم والنسب خاصة بالقبيلة فقط.

ثم يحزنني التغييب المفتعل لدلالات "لتعارفوا" بالجملة وحصرها بمفاهيم ضيقة متعلقة بعوامل النسب وروابط الدم فقط دونما التطرق للوازم هذه المعرفة ومقتضياتها وضوابطها الشرعية والاجتماعية والعلمية والثقافية والاقتصادية والسياسية التي تخضع للبيئات المرتهنة أصلا لعوامل ومؤثرات يتعرض لها الكيان الاجتماعي القبلي وغير القبلي على حد سواء (بعيدا عن روابط الدم) وهذه العوامل والمؤثرات من شأنها أن تؤسس للنظام الأسري والعائلي والقبلي والشعوبي بالشكل الذي يأخذ صورته ضمن المدخلات والمخرجات التراكمية والتي يعتبر رابط الدم أحدها وليس كلها وليس أهمها.

وما نراه أمرًا أكبر وأعظم وتصوراً أشمل بكثير مما درجت عليه أفهام البعض من تصورات قاصرة واستشهادات خاطئة حيث إن فهم عوامل تكوين المجتمعات مفهوم دقيق ومبحث علمي كبير خاضت به البشرية كلها ضل به من ضل واهتدى به من اهتدى.

لذلك كانت الحاجة ضرورية وملحة لإخبار الإنسان عن أصل خلقته وبدايته وطريقة تعايشه مع بني جنسه ونظامه المُحدد له في الخطاب القرآني وذلك بأنه ولد من ذكر وأنثى للدلالة على التزاوج والتكاثر وذلك طبقاً لما ورد في كتاب الله وأيضًا طبقًا للموروثات الثقافية والتراثة الإنسانية وللوثائق والدلائل والآثار والحفريات والتنقيب وما شابه ذلك؛ فالأصل في البشر أنهم ولدوا من ذكر وأنثى ثم تعاقبت البشرية من نسلهم ومنه فإنَّ البشرية كلها بهذا الشكل تنتسب إلى آباء وأجداد معروفين ومحددين تكاثروا وتناسلوا وتعاقبوا وشكلوا مجتمعاتهم ضمن نظام التعايش الجماعي الذي يظهر ابتداءً في الأسرة.

ومع ازدياد أعداد الأفراد الذين ينتمون إلى الأسرة تشكلت العائلة التي بدورها تحولت إلى بطون وعشائر وأفخاذ ومن ثم مجموعها تحول إلى قبيلة ومع تكرار هذه الحالة جيلا بعد جيل ومع توالد وتزايد الأفراد ضمن هذا التقسيم الفطري الطبيعي أصبحت القبيلة الأم تضم عددا كبيرا من البطون والأفخاذ التي بدورها تحولت إلى قبائل لكثرة أفرادها وازدياد أعدادهم ولظهور عوامل أخرى تتعلق بالنواحي السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها.

وهذه القبيلة التي أصبحت بطونها قبائل مستقلة للعوامل السابق ذكرها وضمن هذه المُعطيات يُطلق عليها اسم شعب فالشعب اسم يدل على صلة النسب البعيد بين عدد كبير من الأفراد الذين ينتسبون وينتمون إلى قبائل تعود بنسبها وانتمائها إما إلى قبيلة واحدة كبرى أو إلى جد واحد جامع ومثال ذلك عندما يقول المؤرخون (شعب مضر) يُراد به كل القبائل المضرية من ولد عدنان.

وبهذا التصور وضمن هذه المعاني يتضح لنا أن بيان منظومة "هندسة التكوين المجتمعي الإنساني" قائم على التعايش الجماعي.

والباحث في علم الاجتماع وفي مجالات العلوم ذات الصلة والمتتبع لحركة التغيير الاجتماعي يلاحظ عملية التشويه والإفساد والعبث التي تمارسها اليد البشرية من خلال الحرب الضروس وبكافة الأسلحة التي قد مورست ضد مفهوم الشعب والقبيلة والعائلة والأسرة حتى تخلت معظم البشرية عن هذا الرابط الاجتماعي الفطري الطبيعي المقدس ثم خضعت أحياناً إلى حالة انحلال العقد وانفراطه ودمار المجتمع وضربه بالصميم وبدأت بذلك المشاكل وحلت الكوارث في كثير من المجتمعات بسبب العبثية تلك والتي أثرت مباشرة على الحالة السياسية والاقتصادية بالذات فضلاً عن غيرها.

وعندما تصدر أصحاب الفكر والنخب الثقافية لوضع حل لتلك الأزمة وترتيب المجتمعات البشرية من جديد قالوا عودا على بدء إنَّ الحل هو إنشاء كيانات جماعية وتجميع البشر فيها فطرحوا فكرة الأحزاب والتيارات والحركات والأسر (السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها) وبهذا هم حاربوا القبيلة بل حاربوا الأسرة التي هي نواة القبيلة والعيش الجماعي والمجتمع واتهموا أفرادها بالعصبية وأنشأوا عوضا عنها الأحزاب التي بنوها أصلاً على مبدأ التحزب و التعصب وتحقيق المصلحة.

وكان البعض وللأسف من أبناء جلدتنا يساهم في هذه الحرب ضد "هندسة التكوين المجتمعي الإنساني" من خلال القول بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أن لا قيمة للنظام الأسري أو العائلي أو القبلي أو حتى الاجتماعي عامة ومخرجاته من حيث التنظيم الهرمي والقيمي والمادي والعلمي والثقافي والذي يخضع فيه الكل لمعايير صارمة ودقيقة ومحددة ابتداءً من الأمير أو الزعيم أو الشيخ أو عميد الأسرة أو الكبير أو الوجيه إلى أصغر أفراد المجتمع في القبيلة مرورا بكل الشرائح المنضوية في هذا المجتمع ضاربين بعرض الحائط الإرث القيمي المهول والذي خضع لكل المقومات الحضارية عبر العصور ضمن الإمكانيات المتاحة آنذاك.

والقبيلة تخضع لعوامل النهوض والانحطاط حالهم كحال بقية المجتمعات الأخرى

لكن السؤال المهم هنا:

هل من العقلانية أن يلقى اللوم على "هندسة التكوين المجتمعي الإنساني" عندما يتقاعس أفرادها عن حركة النهوض ويتأخر ركبهم الحضاري؟

أم هل من العقلانية والموضوعية أن يربط فشل البيئات المجتمعة والممارسات الخاطئة المرتبطة بها بهندسة التكوين المجتمعي الإنساني؟

أليس من القصور في التصور والمحاكاة والمحاكمات العقلية أن نجعل البيئة الاجتماعية و"هندسة التكوين المجتمعي الإنساني" شيئًا واحدًا.

وبالوقت الذي نرى فيه أنَّ حالة البداوة التي تحياها قبيلة ما في بيئات خضعت لعوامل عدة والتي يرى فيها البعض مظاهر التخلف والجهل وحالة من الهمجية فإننا نرى أنه يقابلها حالة من التخلف والجهل المزري والهمجية اللامعقولة بطريقة أو بأخرى تحياها شريحة مدنية (متحضرة!!)

إنَّ عوامل النهوض والترقي والتراكم الفكري ترتبط بالنواحي العقلية والعلمية والمعرفية ولا تخضع لروابط الدم أو النسب وأمثلة ذلك جلية واضحة لاسيما في الدول التي تقوم على أساس التجمع والتحالف القبلي الذي أدى الى الاستقرار والازدهار والتحضر المدني وظهور قامات فكرية وعلمية وعقلية قدمت الكثير للحضارة الإنسانية وبكل بساطة ما يزال هؤلاء أبناء قبائل وعوائل وأسر وما يزالون يحافظون على روابط الدم النسب ولو أردنا الاستفاضة لقلنا إن أكثر الدول تحضرًا أو استقرارًا في العالم وأذكر مثال (بريطانيا- السويد- أسبانيا- بلجيكا- ودول الخليج العربي غيرها) تحكمها أسر تنتمي إلى قبائل لكن هذا الانتماء لم يكن أبدًا عائقًا أمام الحالة الفكرية والعقلية والعلمية.. فتأمل!

تعليق عبر الفيس بوك