محمد بن رضا اللواتي
لطالما وقفتُ أبتاع بعض الفواكه من تلك المرأة التي كانت تضع صُفريتها (الصُفرية يُطلق على صحن معدني كبير باللهجة العُمانية) تصفف عليها بضائعها للمارة في زاوية من ممر المُشاة في (حِلَّةِ اللواتية) على شارع الكورنيش بمطرح، وغيري الكثير ممن وقفوا يشترون منها، ولكن منذ أيام، لا أجد لهذه المرأة ذات (الصُفرية) من أثر!
مواقع أخرى على امتداد سوق الظلام كُنَّا نجد ذوي (الصُفريات) من الباعة يجلسون على الحُصران (جمع حصير باللهجة العمانية)، يجدون في اكتظاظ السوق بالمارة فرصة لأن يدخل في جيوبهم شيء من المال يعينهم على مسؤوليات العيش، إلا أنهم جميعاً قد اختفوا، ربما لقرار رسمي بمنع هذا اللون من البيع.
مهما كان المُبرر مُتزنًا لمنع ذوي (الصُفريات) تلك من باعة الأرصفة من البيع، إلّا أن ذلك يسبب في انبثاق سؤال مُهم، عن الذي قدمناه من بديل لتلك الأُسر الضعيفة عندما قطعنا عنهم مصدر رزق ربما كان أساسيًا، لا سيما وأن مجموعة منهم قد اعتبروا هذا المنع مجحفاً للغاية لهم، وسبباً في مزيد من العجز الاقتصادي لأحوالهم؟
والسؤال يتصاعد ليتساءل عن وجود خُطة محكمة تجعل أعداد الأُسر المسجلة في دفاتر الضمان الاجتماعي تتراجع سنويًا وتستقل عن الاحتياج؛ إذ سجلت نسب أُسر الضمان الاجتماعي نحو 74029 أسرة حسب إحصائيات حديثة، تضم 136795 شخصًا مستفيدًا بمبلغ يصل إلى 113,812,073 ريالًا عُمانيًا مع منحة العيدين وشهر رمضان المبارك. فهل هناك خُطة واضحة المعالم لخفض هذه الأرقام ورفع الأرقام في سجل العائلات المستقلة بدخل شهري يوفر الحياة الكريمة؟
عملت الحكومة الرشيدة على القضاء على الفقر، بحيث تجاوزت بأشواط مؤشرات هذا المرض الاقتصادي الخبيث المذكورة في أهداف التنمية المستدامة عالميًا، فلا يوجد مواطن عُماني يعيش بقوة شرائية تصل إلى 1.9 دولار يوميًا، كما حققت عُمان المركز الخامس عربيًا و48 عالميًا ضمن 119 دولة في قائمة الدول ذات التنمية البشرية المرتفعة جدًا، وبقي أن نبذل مزيدًا من الجهد، لكي نتمكن من خفض أعداد الأسر المنتسبة إلى برنامج الضمان الاجتماعي، لأن 1.9 دولار والذي يعادل حوالي 800 بيسة لا يستطيع أن يوفر غير وجبة واحدة فقط، فهذا المؤشر قد يكون مناسبًا لدول ما، إلّا أن علينا أن نضع أرقامًا أخرى تُحدد خط الفقر بحسب ما يناسب اقتصادنا. لذا نجد أن نسبة الهزال لدى الأطفال الأقل عن 5 سنوات قد انخفضت فعلا من 13% إلى 9.3% بين عامي 1995 و2017، لكنها لم تضمحل.
برنامج "تمكين" والذي دشنته وزارة التنمية الاجتماعية، يبذل جهودًا حثيثة ومباركة، بهدف مساعدة أسر الضمان الاجتماعي على الاستقلال بإنتاج دخل للأسرة عبر حزمة من أشكال الدعم الفني والمالي والإداري، وهذا يتسق تمامًا مع رؤية "عمان 2040" التي تتضمن مبدأً استراتيجيًا وهو "حياة كريمة ومستدامة للجميع"، وتعمل السلطنة جاهدة على تحقيق هذه الاستراتيجية، لذا نراها قد صُنفت ضمن أعلى 29 دولة من حيث نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، ومع هذا، فإنَّ وجود 136 ألف مستفيد من الضمان الاجتماعي بحلول 2023 رقم مُقلق في تعداد سكاني لا يتجاوز قرابة 3 ملايين مواطن.
لقد تضمنت الخطط التنموية مبدأ توفير نظام الضمان الاجتماعي، والذي من خلاله تعمل على توفير فرص العمل لأبناء هذه الفئة، فضلًا عن توفير المساكن الاجتماعية ومشاريع توفر الدخل والمنح الدراسية، إلّا أنه ربما قد يكون الوقت مناسباً جدًا للانتقال إلى مرحلة تتطلب إيجاد تغيير في جوهر هذا النظام وبنيته المستندة على "الإعانة" إلى تأسيس بنية جديدة له تستند على "التمكين" بحيث يتغير مُسماه أولًا، فلا يكون ضمانًا اجتماعيًا، وإنما تمكينًا اجتماعيًا.
التغيير المشار إليه كما يقترحه بعض الاقتصاديين، لا يجعل "التمكين" برنامجًا متفرعًا عن نظام "الضمان الاجتماعي"، وإنما يكون "التمكين" بنفسه مبدأً في الخطط التنموية المقبلة، تعمل فيه كوادر مؤهلة تمامًا لإيجاد نقلة نوعية حقيقية للأسر المتعففة، استراتيجيتها الجوهرية هي الاستثمار في العنصر البشري لجعله مُنتجًا للدخل بدعم وإشراف من الوزارة، وبالتعاون مع الخبرات الاقتصادية المحلية لتحقيق مؤشرات منخفضة في مستحقي الدعم.
إننا نرى أن الأرقام المتعلقة بتراجع الدين العام تُبشر بالخير، فلدينا 656 مليون ريال فائضًا ماليًا، ونحن ما نزال في النصف الأول، فماذا لو خططنا لخفض حقيقي في أرقام أسر الضمان، ورفع حقيقي لأرقام الأسر المتمكنة، بنقلها من هذه القائمة إلى تلك؟
وبعبارة تُعجب الاقتصاديين: ماذا لو استطعنا أن نقوم بتحويل بعض ذلك الفائض إلى الدخل المُعزز للرفاه الاجتماعي؟ لا شك أن ذوي (الصُفريات) لن يعودوا في حاجة إلى الاحتفاظ بها، فلعل قرار المنع يتراجع، فتعود للظهور مجددًا على أرصفة المشي.
وليس هذا فحسب، وإنما لعل بند "الرفاه الاجتماعي" الذي تنص عليه رؤية "عُمان 2040" سيكون الأسبق عن سائر البنود الأخرى تواجدًا على أرض الواقع.