أ. د. حيدر أحمد اللواتي **
أدت التطورات الكبرى في علوم الطبيعية إلى إحداث ثورة في نمط حياة الشعوب في كافة أقطار العالم، ونتج عن ذلك تقديس البعض لهذه العلوم ورفعها إلى مقامٍ سامٍ لا يُدانيه شيء، فغدت لدى البعض دينًا يُدان به، وحاولت بشتى الطرق أن ترفع من كل ما يُنسب لتلك العلوم؛ بل وتحاول أن تحول بعض الفرضيات والنظريات العلمية إلى حقائق لا تقبل النقاش، ومقابل هؤلاء، هناك من يحاول أن ينتزع من علوم الطبيعة، تفوقَها وبروزَها، من خلال التشكيك فيها وأنها لا تستقر على رأي، فمع مرور الوقت تتحول الكثير من الحقائق العلمية إلى وَهْمٍ، وبين توسيع الفئة لنطاق الحقائق العلمية وبين الثانية- التي تشكك بقيمة علوم الطبيعة وأنها ليست إلَّا ظنون تتغير مع الزمن- اختلط الأمر، وتساءل الكثيرون: هل علوم الطبيعة حقائق لا تقبل التغيير أم فرضيات تتغير وتحل محلها أخرى؟
في سلسلة من المقالات العلمية سنتناول علوم الطبيعة، وهل هي مجموعة من الحقائق التي لا يعتريها شك ولا شبهة؟ أم إنها محض ظنون لا يقر لها قرار وتتغير بتغير الزمان؟
المقالة الأولى: هل الحقيقة العلمية تتغير مع الزمن؟
للإجابة على هذا التساؤل لابُد من التوضيح أولًا أن علوم الطبيعة مفهوم واسع يضم مجموعة من النظريات والفرضيات العلمية، إضافة إلى الحقائق العلمية، وكثيرًا ما يحصل خلط، فيضم إليها آراء العلماء في قضايا الحياة والكون وهي آراء فلسفية مبنية على فهم العالم للنظريات والفرضيات والحقائق العلمية، ومن هنا فلا يصح أن نضع كل هذه الأمور في سلة واحدة ونحكم عليها بحكم واحد.
والخلط الحاصل عند الكثيرين هو بسبب عدم تفريقهم بين الحقائق العلمية والنظريات العلمية وبين الفرضيات وبين رؤى يتبناها عدد من العلماء.
لكن علينا في بداية الأمر أن نوضح أمورًا مُهمةً تتعلق بعلوم الطبيعة، فموضوع هذه العلوم هو المادة الطبيعية، وكل ما هو فوق الطبيعة وما وراءها، فليست لهذه العلوم دخل بها.
تنحصر الحقائق العلمية في علوم الطبيعة في الظواهر الطبيعية التي يمكننا الكشف عنها من قبل حواسنا الخمس، كظاهرة تعاقب الليل والنهار، أو ظاهرة المد والجزر أو الفيضانات أو سقوط الأجسام على الأرض وغيرها من الظواهر التي يُمكننا الكشف عنها من خلال حواسنا الخمسة، فهذه الظواهر الطبيعية نعبر عنها بالحقائق العلمية، وهي حقائق ثابتة لن تتغير أو تتبدل مع تعاقب الأزمان.
الإنسان ومنذ القدم شاهد هذه الظواهر ورصدها بحواسه، ولا أحد يشك بوجودها عدا السُفسطائيين الذي يشككون في الواقع بأسره، وبالنسبة لهؤلاء فعلوم الطبيعة برمتها محض خيال!
لكننا اكتشفنا أيضًا أن الحقائق العلمية لا تتوقف عند تلك التي يمكننا الكشف عنها عبر حواسنا الخمسة، فقد اتضح لنا أن حواسنا قاصرة عن الكشف عن كم هائل من الظواهر الطبيعية، ولذا تعجز عن الكشف عن الواقع كما هو؛ بل إنها تكشف لنا الواقع حسب إمكاناتها البسيطة، ولذا كان لزامًا علينا أن نوسِّع من مدى حواسنا وذلك عبر الأجهزة والآلات كالمجهر والتلسكوب وغيرها من الآلات والأدوات، وهنا حققت علوم الطبيعة نجاحات باهرة وخاصة في القرون الثلاث الأخيرة، وبفضل هذه الاكتشافات تحولت عدد من الفرضيات العلمية إلى حقائق علمية لا تقبل المناقشة، فقبل اكتشاف المجهر مثلًا كان الإيمان بوجود كائنات دقيقة لا نراها بالعين المجردة مجرد فرضية ولا يوجد ما يُثبت صحتها، لكن ومع اكتشاف المجهر والذي يعد امتدادًا لحاسة الإبصار، استطعنا أن نحوِّل هذه الفرضية إلى حقيقة علمية، فلا يُمكن في يوم من الأيام القادمة أن يثبت خطأ هذه الحقيقة العلمية، وهكذا الحال مع مُرَّكب "دي إن إيه DNA"، فلقد تم الكشف عنه بأجهزة تُعد امتدادًا لأبصارنا؛ لذا فقد غدا حقيقةً علميةً لا تقبل النقاش وباستخدام هذه الآلات والأدوات الحديثة استطعنا أن نُحوِّل فرضية كروية الأرض إلى حقيقة علمية، كما إن دوران الأرض حول الشمس بات حقيقة علمية لا يمكن لنا أن نناقش مدى صحتها، وهكذا الحال مع الظواهر العلمية المختلفة.
ومن الظواهر العلمية التي غدت حقيقة علمية ظاهرة الثقب الأسود وذلك لأننا استطعنا في عام 2019 أن نرصد "الثقب الأسود" عبر أجهزة بالغة التعقيد، ومن هنا تحوَّل الثقب الأسود من ظاهرة تُشير إليها نظرية علمية إلى حقيقة علمية.
وقد يتساءل البعض كيف يمكن لرصد واحد أن يحول الفرضية إلى حقيقة علمية، والجواب إن رصد أي ظاهرة لابد وأن يكون ممكنا لجميع من يمتلك أجهزة رصد مساوية في القوة، فمثلا الكشف عن البكتريا ممكن لكل من يملك مجهرا له قدرات معينة، كما أنه هذا الرصد يخضع لكثير من التدقيق والفحص من قبل عدد كبير من العلماء خاصة عندما يكون رصدا جديدا، ولا يعد الرصد الذي يقوم به عالم واحد كاف لتحويل النظرية إلى حقيقة علمية بل لابد وأن يقوم برصد الظاهرة والتحقق منها عدد كبير من العلماء، ولذا فان بعض الحقائق العلمية تحتاج إلى زمن طويل قد يستغرق عشرات السنوات كظاهرة تعرف بالأمواج الثقالية والتي تم التنبؤ بها قبل أكثر من مئة عام وتم رصدها قبل بضع سنوات.
ومن هنا تأتي أهمية تطوير أجهزة الرصد المختلفة وتوفرها في مراكز الأبحاث العالمية، فهذه الأجهزة تلعب دورًا مهمًا في تحويل النظريات والفرضيات العلمية إلى حقائق علمية.
إنَّ علوم الطبيعة تكشف عن حقائق علمية لن تتغير- كما أوضحنا- ومن يرفضها فهو يرفض حقائق ثابتة لن تتغير ويعيش في وَهْمٍ لا واقعَ ولا حقيقةَ له!
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس